لقد مرت بلادنا أو بالأصح أبناؤها مند الاستقلال بما يكفي من التجارب المريرة وصار لزاماً عليهم بعد كل ما عانوه وشهدوه وشاركوا فيه أو تفرجوا عليه أن يختاروا أقصر الطرق للوصول بالبلاد إلى بر الأمان وإلى حيث تتحول هذه البلاد (الزعفانة) إلى بلاد (الفرحانة) حقاً متقدمة ديمقراطيا تتسع لكل أبنائها ويجد عندها كل مواطن كرامته لأن في كل الأزمنة الحرجة والمتوترة بالمعنى الوجودي والسياسي والاجتماعي يعود مفهوم الوطن إلى الواجهة ليفجر الإحساس بالانتماء الجغرافي و التاريخي والثقافي بمشاعر ملتهبة تفسر العلاقة المتينة القائمة بين الإنسان والأرض وعند كل الفترات الانتقالية ترتفع الأصوات لتنادي بدولة المؤسسات يأخذ معه الانتماء إلى الوطن بعدا ثوريا يغذيه الوعي المشترك.
اتخذ الوطن عند الأجيال التي عانت من الاستعمار وناضلت من أجل استقلاله صورة رومانسية غاية في الروعة وقد اتخذ هذا الحب والعشق للوطن صورة أسطورية ثم فجأة اختفت هذه العواطف من دون أن يختفي بالطبع حد أدنى من الحس الوطني الضروري لكل مواطن. لأن الصراع السياسي بعد الاستقلال حول من في حقه امتلاك السلطة والتحكم في آلياتها أدى إلى نزع نسبي لتلك القدسية عن الوطن والتي كانت حاضرة بقوة في فترة الكفاح من اجل تحرير الجزائر فأصبح الوطن بعد ذلك يأخذ صورة كمجال للصراع أو كحلبة حامية الوطيس بين مجموعة من الفرقاء السياسيين وهذا ما سيمس بالإحساس العام لمفهوم الوطن وسيضفي عليه بعدا شكليا أو طبقيا بعد ما كان يأخذ صورة الوطن البديع الجميل في فترة الكفاح من أجل الاستقلال.ومن هذا المنطلق إذن مباشرة بعد الاستقلال تعددت صور الوطن واتخذت معاني ودلالات متعددة حسب الطبقات والمواقع أحيانا تصورات سلبية وأحيانا أخرى تصورات جميلة وأصبح معه التساؤل مشروعا حول طبيعة الوطن الذي نحلم به ونريده أن يتحقق على أرض الواقع فطبيعي جدا أن يكون لدينا تصور حوله اليوم يختلف عن التصور الذي كان لدينا عنه بالأمس فالوطن الذي لا نريده ولا نطيق العيش فيه هو وطن يحدد حقوق مواطنيه دون أن يتمكن مواطنيه من تحديد واجبات الدولة. هو وطن لا تأثير لمواطنيه على قادته. هو وطن يتكاثر عدد موظفيه أكثر بكثير مما تتكاثر خدماته. هو وطن يحصل فيه جزء من السكان على أجور تفوق عشرات المرات أجور الآخرين. هو وطن يعيش فيه عشرة أشخاص في غرفة واحدة. هو وطن يكون ضروريا اللجوء فيه للكذب والنفاق والسرقة من اجل العيش. هو وطن يعيش فيه الجبناء أفضل من الشجعان. هو وطن يتمتع فيه مصاصي دماء الشعب بحرية كاملة. هو وطن تكون فيه نتائج الانتخابات قابلة دوما للتوقع المسبق. هو وطن تكون فيه الصراعات القبلية المقيتة هي السائدة. هو وطن تسيطر عليه العلاقات الشخصية ويتم فيه تجاوز العلاقات المؤسساتية. هو وطن يكون التمييز فيه صعب بين الاستعباد والتحرير. هو وطن عبارة عن سجن كبير. هو وطن كأم شرسة تنكر وتطرد أبنائها. هو وطن كقطعة أرضية قابلة للتحفيظ تحت إسم من أسماء الأسر الحاكمة.
في المقابل الوطن الذي نريده هو ذلك الذي كنا نحلم به في شبابنا والذي ما يزال شباب اليوم يحلمون به أيضا وستنتظره الأجيال القادمة للأسف هو وطن واحد حر أبناؤه جميعاً أحرار متساوون في المواطنة وفي فرص العمل وفي الحقوق والواجبات وطن السلطةُ فيه للدستور والقانون جنوده يحرسون حدوده ولا يحرسون السراقة الكبار الوطن الذي نريده الوزراء فيه متخصصون مستقلون تُسهّل لهم ممارسة خبراتهم وتَسهُل محاسبتَهم ووطن الأمن العام فيه لإشاعة الطمأنينة وتنظيم المرور وليس لترهيب المواطن وطن قوي فالضعف يغري الطامعين ويسيل لعابهم والقوة التي نتمناها لهذا الوطن الذي نريده هي قوة العقل والوعي والأخلاق والقانون وليست قوة تكديس الأسلحة و وطن لا يعيش وحيداً منفصلاً بل يكون جزءاً من دول الجوار و أمة كبيرة مهابة متقدمة موحدة الأهداف والمواقف وليس شريحة ساقطة من كيان مهلهل متفسخ لا تحمي صديقاً ولا تخيف عدواً ولا تحظى بأدنى احترام .