بمناسبة إحياء الذكرى الـ61 ليوم الطالب ، التي تنظم هذه السنة تحت شعار “الطالب، مجد الآنف، فخر اليوم”، فقد وجه رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة يوم الجمعة رسالة هذا نصها الكامل:
“بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين،
أيتها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل:
إن اليوم الوطني للطالب ليس مجرد ذكرى وحسب إنما هو وعي دائب يسكن مهج الجزائريات والجزائريين تتجاوز رمزيته معنى ترك الطلبة والتلاميذ مقاعدهم وهجر مدارسهم وجامعاتهم للإلتحاق بصفوف ثورة شعبهم على مغتصب أرضهم وسيادتهم إنه فعل خلاق تماهت فيه الأفكار بالأفعال وتفوق فيه الإيثار على الأنانية والمصلحة الذاتية وارتفع إلى التضحية في سبيل قيم عليا سجلها التاريخ مؤكدا أن رواد الفكر والعلم والتنوير هم المرابطون في الصفوف الأولى دفاعا عن الحق والحرية وقضاء على الآفات التي تنخر كالسوس ركائز المجتمعات.
أيتها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل :
لم يكن عدد الطلبة والتلاميذ في مثل هذا اليوم من سنة 1956 يتجاوز بضعة آلاف لأن للمحتل الظلامي في عقيدته الكولونيالية مبادئ وطرق طبقها بمنهجية وإحكام من بينها تفكيك الأنساق الاجتماعية وتدمير منظومة القيم وكل منارات المعرفة في البلاد إدراكا منه أنها هي الوشائج الأساس لإنارة العقول وشحذ الهمم وترقية الفكر ورفع منسوب الوعي من درك الخنوع إلى درجة الثورة والتحرر.
لذا تجند الاحتلال بكل وسائله ومؤسساته ونظمه وترسانته القانونية والعسكرية لإعادة صياغة مجتمع خاضع لهيمنته مستكين لسيطرته. فليس بمستغرب أن تكون نسبة التمدرس في بلادنا عشية الاستقلال لا تتجاوز 3 % في حين أن عشية الإحتلال 1832 كانت نسبة التمدرس بين أبناء شعبنا تقارب ال 80 % حسب تقديرات المؤرخين الاستعماريين أنفسهم.
لقد زاد الطلبة للثورة سنة 1956 قيمة مضافة على كافة الصعد فمنهم من دعم الكتائب المقاتلة بعقول متنورة أعطت للفعل الثوري الخلاق بعدا استراتيجيا في ميدان القتال كما أن قطاع الدبلوماسية والإعلام والثقافة و التوعية تطعم بعقول تملك أدوات التحديث والأفكار النيرة القادرة على إحباط مخططات المحتل رغم ما كان لديه من تميز تكنولوجي وتخطيط علمي و كفاءات عالية تعمل على تزييف الحقائق في المحافل الدولية وتسميم الرأي العام الدولي عبر الإيهام والمغالطة والمناورة وما إلى ذلك.
فبفضل النخب الجزائرية الطلائعية من الطلبة تعادلت أو كادت موازين قوى الصراع على مستوى المعركة الدبلوماسية والسياسية في المحافل الدولية من ناحية الأمر الذي أكسب الثورة ثقة عالمية لا سيما من شعوب ودول الأمة العربية و الإسلامية.
و بهذا الزخم النضالي والجهادي الذي تقف وراءه إرادة شعب بأكمله ظهر “الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ” واضطر المحتل إلى الجلوس أمام من كان يسميهم فلاقة وخارجين عن القانون يفاوضهم بندية ومساواة في عملية تقرير المصير.
وقد كانت هذه المحطة آخر فصل في ملحمة أيقظت الضمير الانساني وأسفرت عن مفاهيم جديدة وعلاقات حديثة انسحبت تبعاتها على شعوب كثيرة فصفي فيها الاستعمار ونالت استقلالها.
أيتها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل:
لقد شرف طلبة الجزائر سنة 1956 المعرفة والتعليم بتضحياتهم وقدسوا القيم الإنسانية بترفعهم عن الأنانية والمصالح الضيقة وهذه هي الفضائل التي تعد الأسمنت الذي تتسلح به الأجيال في قيادة حركة التاريخ و الاستمساك بوحدة الشعوب وتضامنها وبصون سيادة الأوطان ودفع عجلة الرقي والتمدن.
لهذا السبب أعطت الدولة الجزائرية الحديثة بعد الاستقلال أولوية قصوى للتعليم في كل مراحله وسنت له تشريعات وقوانين وخطت له برامج بيداغوجية وبنت له هياكل قاعدية وجندت له أطر وكفاءات علمية وتربوية جعلته مجانيا بل وقسريا على المتمدرسات والمتمدرسين الأمر الذي غير على مدى نصف قرن كل المشهد المظلم الذي أسدل المستعمر ستائره على كافة ربوع البلاد.
وإذا كان الواقع الموروث عن ذلك العهد قد فرض على دولتنا الاهتمام بالكم أحيانا على حساب الكيف من أجل اللحاق بركب التطور ومستلزمات التحديث فقد راعينا منذ 2003 ضرورة إجراء إصلاحات هيكلية و برمجية وإعادة النظر في جملة من المستلزمات للقضاء على التسرب وتحسين الأداء ودعم التعليم المهني كحاجة ملحة للتنمية الوطنية وتشجيع رفع المستوى الاكاديمي لأعضاء هيئة التدريس وصولا إلى رقمنة القطاع برمته فضلا عن تغطية الاحتياجات الضرورية من مطاعم مدرسية والعمل على محو الأمية وحماية الصحة المدرسية وما إلى ذلك.
فعلى الرغم من وجود أزمة اقتصادية عالمية خانقة كان لها تأثيرها السلبي على إقتصادات البلدان النامية أكثر من غيرها ومن بينها بلادنا فإن سياسة الدولة أبقت على رؤيتها وممارساتها في التكفل بمنظومة التربية والتعليم وعلى خياراتها الاستراتيجية إدراكا منها للمسلمة المطلقة أن لا وجود لدولة قوية وشعب متقدم واقتصاد مثمر لا سيما من خارج الاعتماد المطلق على المحروقات إلا بالاستثمار الجاد والفعال في المعرفة التي يجب أن تضطلع بها الأجيال الصاعدة.
ومن أهدافنا أن تظل المدرسة فضاء للتفكير والحوار وتعلم ثقافة الديمقراطية واحترام الآخر والخروج من الترديد والتقليد والتلقين إلى التفكير والمحاججة والتنفيذ. وأن يتشبع المتمدرس بقيم الجمهورية والحداثة والتسامح واحترام قيم الأمة و ثوابتها والاستلهام من سيرة شهدائنا وأبطالنا عبر التضحية من أجل الأهداف السامية.
أيتها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل :
إن التطلعات المشروعة لشبابنا ورغبتهم في المساهمة في بناء الوطن والدفاع عنه نابعة من وعيهم ومن حبهم لهذه الأرض الطاهرة مثل أسلافهم الذين عزموا أن يكونوا صامدين أقوياء وأوفياء ممهدين للأجيال القادمة سبل العيش بحرية وعزة وكرامة بين الأمم.
و في ظل مخاطر العولمة التي تهدف إلى طمس الهوية الوطنية والثقافية ومقوماتها الرئيسة اللغوية والدينية وإلى تكريس الهيمنة الاقتصادية أدعو شبابنا ليستلهم من تضحيات أولئك الذين حملوا لواء الجهاد والمقاومة والاستماتة في الدفاع عن بلدهم المفدى ويتمسكوا بالهوية الوطنية وموروثها الحضاري لمجابهة كل خطر قد يحدق بوطننا الغالي ويضمن حصانته.
أيتها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل :
إن وقفتنا اليوم مرة أخرى على مجد ثورتنا وما قدمت لها النخبة المثقفة من طلبة وتلامذة كنصيب من تضحيات خدمة للحرية والاستقلال الوطني هي فرصة سانحة لأخاطب الطليعة المثقفة ووطننا يواجه اليوم تحديات صعبة.
بالفعل لكل وطن طليعته من أبنائه الحاملين للشهادات العلمية من أبنائه وبناته العاكفين في المدارس والجامعات للتخرج وهم نجباء. ولقد بذلت الجزائر مثلما ذكرته سالفا جهودا هائلة سمحت لوطننا بكسب الملايين من متخرجي هيئاته التكوينية هيئات تحتوي كذلك حاليا على عشرة ملايين من طلبة وطالبات ومن تلاميذ منظوماتنا التربوية وكذا متربصي جهازنا للتكوين المهني.
إن الجزائر التي تواجه صدمة انهيار أسعار النفط وكل ما ينجر عنها من مصاعب اقتصادية واجتماعية وعن تحديات جديدة لاجتياز هذا الظرف إن بلدنا قلت في حاجة إلى طليعته للمساهمة في شرح أسباب الأزمة ولترقية سبل وحلول التغلب عليها.
حقا إن مساهمة نخبتنا في هذه المعركة في شكل خبرات لتستعين بها الحكومة وكل الهيئات المساهمة في تسيير البلاد هو أمر ضروري.
لكن و في نفس الوقت فإن معركة شرح التحديات الجديدة وما تتطلبه من عزم وتجنيد في أوساط المجتمع تشكل جزءا هاما من تعبئة بلادنا أمام الأوضاع الحالية.
إن مساهمة الطليعة الوطنية في هذا المجال ستسمح لا محالة برفع درجة الوعي في أوساط المجتمع ومن ثمة إبطال بعض المحاولات الداخلية أو الخارجية لزرع الإحباط أو خلق البلبلة. كما أن شرح ضرورة تحرر بلادنا اقتصاديا من التبعية المفرطة للنفط وكذا استغلال قدراتها المتعددة والهائلة لكي نصل إلى مسار تنموي مستدام وإلى ضمان دوام خياراتنا الاجتماعية والتضامنية هي من المساهمات التي يمكن لطليعتنا العلمية من حاملي الشهادات ومن الطلبة أن يزرعوها في أوساطهم العائلية وفي جوارهم ومن ثم في كل صفوف وطنهم لتعبئة المعنويات وتحرير الإرادات إلى الجهد المنشود والصمود المطلوب لكي نجتاز مصاعبنا المالية الراهنة.
لا يفوتني في الختام أن أترحم وأنحني إجلالا وخشوعا على أرواح شهدائنا الأبرار سائلا الله تعالى أن يمتع مجاهدينا الأبرار بموفور الصحة والعافية ويمكن شبابنا الأخيار من أسباب الرقي والازدهار.
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.