وأخيرا عرفت الفرحة طريقها لبيتنا ولو لفترة مؤقتة المهم أن أمي أحست بأنها ليست وحدها في هذا الكون الفسيح وأن لها ربا لا ينسى عباده أخرجت أمي علبة واحدة من شكولاطة وقسمتها بيننا أنا وإخوتي بالعدل كما يحدث في كل الأسر الفقيرة فأبنائهم كلهم كأصابع اليد واحدة لا يمكن أن تفضل الأم احد على الأخر .مسكينة هي أمي نسيت أنها حكت لي ذات يوم عن طفولتها وعن ولعها بالشكولاطة فقد أبت أن تأخذ حصتها من الشكولاطة بحجة أن قلبها أصرَّ عليها أننا أحوج إلى الشكولاطة منها ولكن في لحظة ما لم نشعر أنا وإخوتي حتى عانقنا أُمَنَا وفي صوت واحد نقسم بالله يا أمي لن نأكل الشكولاطة حتى تأكلي معنا المسكينة أخذت حصتها أكلت منها قليلا والباقي من القطعة خبأته لأبي……
في الصباح الباكر سمعت جلبة خفيفة في البيت أمي منزعجة وهي تبحث عن شيء أنا أتحمل أي شيء في الدنيا إلا أن أرى أمي حزينة أو مغبونة فمبال أمي هذا الصباح مهمومة إلى هذا الحد سألتها بصوت خافت كي لا أوقض إخوتي أمي ماذا حصل؟ تجيبني قرة عيني وهي حزينة وعيناها الجميلتان تدمع أبوك قد أخد الكيس وذهب به إلى السوق ليبيع كل الأغراض التي فيه…لبرهة صدمت توقف الزمن وبقيت مذهولا وأنا انظر لأمي ولكن الصور التي تظهر في عقلي لا توجد فيها أمي رغم أني انظر إليها فالصور كلها لي وأنا بلباس الجديد الذي أهدته لي معلمتي وأصدقائي ينظرون لي بإعجاب وأتساءل مع نفسي هكذا بكل بساطة حلمي بظهور بمنظر أنيق أمام أصدقائي ولو ليوم واحد وأمام بنت الجيران خاصة وأنا في كامل أناقتي يذهب هكذا سدا حتى ابسط الأحلام لا تحقق وفي لحظة أغمضت عيني وتساقطت علي أفكار الشر كالمطر فمرت بمخيلتي بسرعة حرق المنزل بما فيه وبمن فيه إلى قتل قاتل حلمي والإنتقام من جميع الأصدقاء الذي يستهزؤون بي فقد مرت صورهم جميعا في تلك اللحظة فقد تملكني غضب يذيب الفولاذ فما بالك القلب.
تخيل عزيزي القارئ طفل في هذه السن المبكرة بحيث انه قابل للتأثر بشكل رهيب بوالده وبالإحداث التي تدور حوله الفقر..السكن الغير لائق..الأب سكير..سخرية الأصدقاء..وأضف إلى ذلك كل ما يمكن لمخيلتك أن تتكرم عليك به فحسب معادلة علم الاجتماع الفقر المدقع وأب سكير حسابيا سينتج أبناء مجرمين بدرجة امتياز إلا من رحم ربي ونحن لسنا في زمن المعجزات والكرامات .
في المساء عاد أبي و بطنه منفوخة و ممتلئة بالخمر الذي اشتراه بمال ملابسي وملابس إخوتي يتمايل جسده وهو يغني أغاني شعبية قديمة المهم أن يكون هو سعيد والبقية فلتذهب إلى الجحيم أمي المسكينة من قهرها ومن صبرها الذي نفد صبره حاولت أن تنفس عن كربها وتسأله عن الكيس وماذا صنع به لم يدعها تكمل كلامها فقد انقض عليها كالذئب الذي يفترس غزالة أضعفتها جراح السنين وغدر الزمان فنهال عليها بالضرب والشتم النابي إخوتي الصغار اختبئوا تحت المائدة وهم يبكون مثل صغار القطة وهم يرون كلب يفترس أمهم تزداد حالة أبي إلى الجنون ويزداد ضربه لأمي المسكينة نزفت أمي من انفها وفجأة أخد برأسها وأراد أن يضربها بالحائط في تلك اللحظة ارتفع صراخ إخوتي وارتفع صوت أبي ثم منظر أمي وقد اختلطت دمائها بدموعها لم اعد أرى شيء ولم اعد اسمع من في البيت فقط هناك صوت خافت يهمس في ادني اجلب السكين من المطبخ…. اجلب السكين من المطبخ….. اجلب السكين من المطبخ وفي رمشة عين وجدت نفسي بين أبي وأمي وأنا احمل سكين كبيرا وأقول لأبي اقسم بالله لو وضعت يدك على أمي سأقتلك اقسم سأقتلك سأقتلك وهي المرة الأولى التي أتكلم فيها مع أبي وعيني في عينه تلك النظرة كانت كافية لهدم أسوار الخوف التي بناها أبي . إلتفت أبي نحو الباب وكأنه يَهُمْ بالخروج من المنزل و يتنهد بصعوبة ويقول تتحداني يا ابن العاهرة كبرت ونضجت واتسعت أكتفاك سأحاسبك على هاته الفعلة حسنا أنا سأخرج بينما أبي يغادر اتجهت برأسي نحو أمي لأطمأن عليها وما هي إلا ثانية حتى شعرت بضربة عصا على راسي سقطت أرضا رأيت أبي يحاول أن يضربني مرة أخرى بالعصا في تلك لحظة سمعت صرخة أمي وهي تقول لقد قتلت ولدي لقد قتلت ولدي وفجأة أظلمت الدنيا في عيني وفقدت الوعي………يتبع