يقول الرسول الكريم «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، ورُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَر». وفي حديث آخر «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلاَ يَرْفثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائمٌ». وتأتي هذه الآيات تدعيما لقوله تعالى «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ». من هنا نطرح الأسئلة حول ما إذا كان تدين الأفراد والمجموعات في شهر رمضان يهتدي بجوهر تلك النصوص، أم أنه يلتف حولها ليجعل التدين مجرد «لباس الراهب»، أي مجرد قناع يخفي الجوهر الخبيث في الإنسان، ومن ثم تتفجر تناقضات الظاهر والباطن في سلوك المواطن؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نستحضر مظهرين أساسين في السلوك الرمضاني كما هو جلي في شارعنا العام.
المظهر الأول يعطي الانطباع بتنامي الوعي الديني، وبتكاثر عدد المصلين في هذا الشهر، وبموازاة ذلك نسجل تنامي الإقبال على الأكل، وعلى التبضع بحيث تؤكد الأرقام أن هذا الشهر المعظم هو أكثر الأشهر إنفاقا لدرجة صار معها الأكل بمثابة عبادة تضاهي عبادة الصوم والصلاة. المظهر الثاني يقف على مكان النقيض من المظهر الأول، ذلك أن السلوك اليومي للعديد من الصائمين يبدو مخالفا لجوهر المقاصد الكبرى التي أشرنا إليها سالفا، والتي تفترض أن تطبيقها سيجعل مجتمعنا في درجة من العفة والطهارة قد تجعلنا نتصور أن «الملائكة» وحدهم من يحلق في سماواتنا وعلى أرضنا، والحال أن الشارع يحيا بخلاف ذلك. إننا نلاحظ بهذا الصدد أن العديد من المصلين ما أن ينهضوا من صلاة التراويح حتى يعودوا إلى لوثة اللسان والعقل و جلهم لا يكتفي بالتنابز بكلمات الشتم والرذيلة، لكنهم يحترفون النميمة في أقرب المقاهي إلى المساجد، ويمارسون الغش وخيانة الأمانة والتكاسل في مقرات العمل، ويمارسون التدليس أثناء عمليات البيع والشراء، ولا يتوانون عن أكل لحم جيرانهم وزملائهم حيا. و نلاحظ أن العديد من الإدارات العمومية نسمع صوت البرد في مكاتبها في رمضان بسبب تغيب العديد من الموظفين بدعوى التعبد !!!.
إننا نلاحظ كذلك أن شهر رمضان المعظم هو أكثر الأشهر التي تتنامى فيها ظاهرة البغاء على الرصيف، وفي البارات والملاهي التي تتحول إلى أوكار للشيشة، ولاصطياد العاهرات، والقاصرات منهم على الخصوص. هذه المظاهر، بطابعها المفارق، تتصارع في سلوكنا اليومي. ومن الطبيعي أن ينتصر جانب الشر على جانب الخير المفترض أن يكون هو المنتصر في رحاب الشهر الكريم، والنتيجة أننا نكون إزاء أكثر الأشهر نفاقا، وهو ما يبعث بالفعل على القلق إزاء هذا الوضع الانشطاري. فليس مصدر القلق التفكير في ضرورة قيام مجتمع طاهر سليم من الموبقات والرذائل بالمعنيين الديني والاجتماعي على اعتبار أن «المدينة الفاضلة» لا توجد إلا كحلم، أو كتعبير عن السمو نحو مراقي المطلق، ولكن مصدر القلق يعود إلى خطورة آثار هذا النفاق العام الذي لا تنحصر فقط في السلوك الرمضاني، بل تمتد لتصبح سلوكا على امتداد السنة ذا الانعكاسات السلبية في العلاقة مع العمل، ومع الدراسة، ومع المسؤوليات داخل إدارة الشأن العام. إنه الخلل الذي يضخمه رمضان الكريم لينبهنا إلى أننا صرنا مجتمعا فاسدا على مستوى قيمه وعلى مستوى بنياته العميقة.
هناك فصلا بين رمضان كممارسة ورمضان كعبادة، لأن رمضان كعبادة شيء ورمضان كممارسة شيء آخر، وهو ما يجعل رمضان يتحول إلى مجرد عادة بدل أن يكون شهر عبادة،البعد عن قيمة رمضان هو السبب في ما نراه من سلوكيات اليوم، بدءا من مائدة الإفطار وما تحمله من إسراف، حيث تمتلئ عن آخرها بما لذ وطاب من شهوات فهذا يبعدنا عن الغاية من شهر رمضان في ارتباطه بالجوع والعطش وفي هذا الإطار أشير إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم «واذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه». فالغاية من ذلك هو أن نشعر بالفقراء والمشردين والذين لا يجدون ما يسدون به رمقهم وقت الإفطار وأن نتخلص من الأنانية الاجتماعية التي نعيشها، ولنأخذ أيضا مثال الصلاة من خلال الآية الكريمة «ومن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له» فيمكن من خلالها أن نقيس ممارسة رمضان، فلا معنى للصلاة في غياب معاملة حسنة للجار أو الأهل في البيت، إذ تتحول الصلاة إلى مجرد ركوع وسجود بخلاف مفهومها القيمي أي أن تستشعر وقوفك أمام الله عز وجل.
ما يحدث من مفارقات خلال شهر رمضان مرتبط بتحول القيم لدى المجتمع الجزائري، فإقبال الناس على المساجد خلال رمضان لا يمكن تفسيره بالتظاهر أمام الناس أو النفاق، بل هذا الإقبال يتم بحسن نية ويأتي في سياق موجة التدين التي تأتي مع حلول رمضان. والمشكل الذي تعانيه المجتمعات الإسلامية بصفة عامة هو غياب الربط بين العبادة والممارسة، لذا ينبغي أن يشكل إقبال الناس على المساجد في رمضان استمرارية في التقرب إلى الله خلال باقي الشهور، في معاملاتنا مع الناس، مع الجيران، في مقرات العمل، وهكذا يمكن لرمضان ان يشكل خطوة تصالحية مع مجتمعنا ومع أقاربنا وجيراننا ومع المواطنين الذين نخدمهم في الإدارات، حيث سيحدث التوازن بين اعتقادنا في رمضان في بعده الروحي والقيمي والفكري وممارساتنا في الواقع خلال الشهر الكريم. فمجرد امتناعنا عن الأكل والشراب من طلوع الفجر الى غروب الشمس طاعة لله عز وجل ينبغي أن يعلمنا الامتناع أيضا عن باقي محرمات الله عز وجل ومنها الامتناع عن سرقة حقوق الآخر، الامتناع عن سرقة وقت الآخر في المدارس والإدارات العمومية، عدم احتقار الآخر، عدم مد أيدينا لمال الآخر، وبصفة عامة إطاعة الله في معاملاتنا مع الآخر ولو تمكنا من تصريف شهر رمضان الذي يتضمن عدد من تجليات طاعة الله عز وجل في سلوكاتنا ومعاملاتنا فمن المؤكد أننا سنكون من أحسن خلقه عز وجل .