هروب ماكر دائما ما كنت أشاهد هذا البرنامج على التلفاز وأنا أتذكر ذلك الهروب الماكر الذي كان الأول والأخير الذي يحدث في معتقلات الجزائر وكنت أنا الشاهد الوحيد على هذا الهروب الماكر… وهنا سمعنا وقع أقدام قادمة في إتجاه الغرفة فعاد كل منا إلى سريره إلا بهلول ظل يعبث بأزرار المصباح وهو يطفئ وينير الظلام بشكل زاد من توترنا ورعبنا ورسم لوحة من الخوف والفزع كمقطع من أفلام رعب لا ينقصنا سوى صوت الرعد والبرق وبدون إستئذان دخل إلى الغرفة بعض العسكر مختلفي الرتب وبدأ قائدهم يتفحصنا الواحد تلو الأخر وركز بصره علي وهو يقول مهندس بترول أليس كذلك أجبته بخوف وحذر نعم يا سيدي أنا هو وفجأة مد يده نحو كتفي وإتسعت عيناي من الخوف تحسس كتفي برفق وخبرة وهو يقول لقد بدأت تتحسن إستعد لقد أن الأوان دارت رأسي بي وبدأت المخاوف تلعب بي وأنا أسأله بخوف أن الأوان لماذا يا سيدي رمقني بحدة وهو يقول سنقوم بزيارة لقائد الوحدة هنا للإستجواب وللإستفسار عن مجال عملك وكفائتك فيه هنا طمأنني قليلا وربما يكون السبيل للخروج من هذا المعتقل اللا إنساني…
قلت له متسائلا أسنذهب غدا أجابني على الفور بل الأن هيا قم من الكسل وإستعد للعمل دفع جوابه الحماسة في صدري وإلتفت إلى زميلي الراقد وأنا أقول لعلي أشم رائحة البحر تناديني لإعتناق الحرية من جديد أدعو لي بالخير تمتم زميلي ببعض الكلمات الغير المفهومة فلم أعرف أكان يدعو لي أو يلعنني في سره دخلنا على قائد الوحدة الذي بدا شكله مضحكا بعض الشيء فهو قصير القامة بدين تملأ وجهه نظارة كبيرة مثل النظارات التي كان يرتديها المجتهدون في القسم بحجمها الغريب ويعلو فمه الصغير شارب غطاه الشيب بالبياض يرتدي الأخضر المميز للعسكر فبدى أشبه بدب الباندا مع إسم غريب مثله معلق على مكتبه فالح فهمان من أين يأتون بهذه الأسماء الغريبة عن أسماءنا جلس وهو يفكر في شيء ما وفي يده قلم وأمامه جريدة وطنية وكان منشغلا تماما في حل الكلمات المتقاطعة فلم يلاحظ دخولنا فعاد الضابط يقول بصوت عال نسبيا وصل المتهم يا سيدي وهم تحت إمرتكم أيها القائد نظر إلينا بغضب كأنما قطعنا خلوته مع عشيقته ووضع الجريدة على المكتب وهو ينظر إلي بتمعن ونطق المعتوه أخيرا وهو يقول أجل أجل نحن نعرف كل شيء لا صغيرة ولا كبيرة تحدث في الجزائر إلا وهي تحت أسماعنا وأبصارنا ثم سكت قليلا ينظر إلى الكلمات المتقاطعة وعاد يقول تقاريرنا تقول بأنك نابغة في مجالك وأنك كنت الأول في الدفعة التي تخرجت…
أجبته وقد كنت أعرف كيفية التعامل مع هؤلاء القتلة الأغنياء فأفضل ما يرضيهم أن تمدحهم وتبجلهم وكما يقول المثل إحييني اليوم وأقتلني غدا فلكي أرضي مرضه وتكبره لعلي أنفد بجلدي وأجد مخرجا لي من هنا فقلت له مهما وصلت من مرتبة في العلم أو أخدت من جوائز فلن أكون سوى قطرة من بحر معرفتكم وعلومكم يا سيدي ضحك المتغطرس ضحكة عالية وهو يقول لقد بدأت تعجبني يا فتى وأظن أنه سيكون لك مستقبل زاهر معنا إن سمعت كلامنا وكنت عبدا مطيعا لأوامرنا ورغباتنا نظرت إليه بحقد وأنا أقول سأفعل يا سيدي سأفعل هذا من دواعي فخري ثم عاود النظر إلى صفحة الكلمات المتقاطعة وركز بصره على سؤال ما لمدة ليست بالقصيرة وأطلق زفرة حارة من صدره دليل على إستسلامه في حل الشبكة ونظر إلي الضابط وهو يقول متسائلا دولة عربية تصدر اللؤلؤ من تسعة أحرف من تكون نظر إليه الغبي الأخر وهو يقول جنوب إفريقيا حاول أن يكتبها القائد إلا أنه وجد عدد الحروف يفوق الخانات وأجابه وهو يقول لا ليست هي يا لا العبقرية جنوب إفريقيا دولة عربية تصدر اللؤلؤ فقلت له سيدي جرب سلطنة عمان نظر إلي متفاجئا ثم عاد إلى كلماته المتقاطعة فوجدها صحيحة فابتسم وهو ينظر إلي قائلا نعم أحسنت يا فتى ثم بدأ يقرأ الكلمات وقال بصوت مسموع كأنه يتشاور معي في الجواب فقلت له سيدي أيمكنني مساعدتك في حل هذه الشبكة فلقد كانت هوايتي المفضلة في الصغر فنظر إلي قليلا ثم قال هيا تعال لنرى معلوماتك نظرت في الشبكة فاستغربت من عقلية هؤلاء الجنرالات التي تريد أن تصنع تاريخا مزيفا للبلاد ولو على حساب تزوير التقاليد والثرات المهم كل شيء ينسبونه للجزائر وهي بريئة منهم براءة الذئب من دم يوسف المهم بدأت أشرح له الكلمات وأقوم بحلها بشكل سليم حتى أتممتها حينها إلتفت إلي القائد وقلت له ها أنت يا سيدي قد أتممت حلها نهائيا وبكل سهولة…
نظر إلي القائد والدموع في عينيه وهو يقول عشرون عاما وأنا أحاول أن أنتهي من حلها ولم أستطيع واليوم أتممتها بأكملها فاطلب ما تشاء أيها الفتى فقلت له هل أطلب ما أشاء يا سيدي أجابني أطلب ما تشاء فقلت له وبلا تردد أن أخرج اليوم من هنا ولا أظل ليلة أخرى وأن تعطوني بهلول أتحمل مسؤوليته وأعتني به ماذا قلت يا سيدي نظر إلي متفاجئا وأطلق ضحكة عالية وهو يقول تستاهل حتى البهلول لا حاجة لنا به سيكلفنا فقط الطعام والشراب خده معك وأرحنا منه أصدر القائد أوامر في الحين وبدأت إجراءات خروجنا من السجن بسرعة وأوصى لنا القائد بمبلغ مهم نأخذه معنا حتى يتيسر لنا الوصول إلى أهلنا أخبرت بهلول بالأمر وظل وجهه جامد لا يعبر عن شيء إلا أن عيناه لمعت بشكل ملحوظ فجمعت أغراضي وأغراض بهلول المضحكة فقد كان بحوزته دبدوب صغير ثم أوصلنا العسكر إلى باب السجن وأخيرا سأخرج من هذا المعتقل الرهيب خرجنا من السحن وأخدنا حافلة عمومية لتوصلنا إلى أطراف المدينة ثم وقفت أنا وبهلول نبحث عن طاكسي ليقلنا إلى البيت ثم سمعت أشكرك كثيرا يا صديقي ومن أعماق قلبي لم أصدق أذني في الأول فلا يوجد في المكان غيري وغير بهلول من أين أتى صوت ربت بهلول على كتفي وهو يحتضنني سأشتاق لك كثيرا ولن نترك النضال والمقاومة إلى أخر مقاوم فينا لم أتمالك نفسي من المفاجأة فاحتضنته بدوري وأنا أقول له أنا أيضا سأشتاق لك ولكن قلت له كيف قاطعني وهو يقول ستعرف كل شيء مع مرور الزمن والأن الوداع ثم اختفى وسط أشجار الغابة وكان هذا أغرب هروب رأيته في حياتي…يتبع