لقد زرع فينا نظام الحركي مند الاستقلال وليوم هذا جينات عدم الثقة فيما بيننا فقد كبرنا وآبائنا يحذروننا من أن يتم النصب علينا فهم يحذروننا من أن يبيع لنا بائع الفاكهة والخضار فاكهة وخضروات فاسدة يحذروننا من أن يغشنا سائق الطاكسي في ثمن التوصيل يحذروننا من الطبيب انه له يد مع صاحب الصيدلية يحذروننا من المعلم أن شخص مريض نفسيا فهم يحذروننا من الجميع وهذه من جملة المميزات التي يتحلى بها هذا الوطن العجيب الغريب الذي نعيش فيه فقدان الثقة بين المواطنين إلى درجة صار المرء لا يثق حتى بنفسه كما أنه أصبح لا يوجد من نثق به ثقة عمياء وبدون قيد أو شرط مهما سمت أخلاقه ورسخت قدمه في دنيا الصدق والأمانة. فالمواطن بات في نظر الناس كاذباً مخادعاً محتالاً حتى يثبت مع السنين والشهور أنه على خلاف ذلك وهو متهم حتى تظهر براءته بعد عمر طويل وبعد أن يكون في غالب الأحيان قد غيَّبه الثرى وعندئذٍ فقط يقال رحمه الله كان رجلاً شريفاً كريماً فيتفنن الراثون والمعددون في تعداد صفاته والتباكي على حسن أخلاقه حتى ولو لم يكن على شيء من هذه الصفات.
لقد فقدت الثقة بين المواطنين إلى درجة سار معها الواحد منا يحس بحقارة في نفسه مهما كان شهماً وبالكذب مهما كان صادقاً وبسوء الخلق مهما كان صالحاً كما يشعر أنه عدو لدود لأبناء وطنه أجمعين حتى ولو كان من أخلص الناس فمسألة الثقة المتبادلة هي في رأيي من أهم شروط النهوض بالمجتمع وحين لا تكون ثقة لن يكون هناك مجتمعاً سعيداً والثقة أمر مهم في تعامل البشر مع بعضهم البعض في البيع والشراء إن لم تثق بالبائع فإنك تساومه وقتاً طويلاً ثم تخرج معه على خلاف ودون أن تبتاع لأنه بكل بساطة إن لم تعد تتق في طبيب أو صحفياً أو مصلحاً يحل الاحتقار له في نفسك محل الاحترام فالطبيب إن لم توله ثقة كاملة فمن المستحيل أن تتداوى عنده وتشفى سريعاً وكذلك المحامي إن كنت تشك في مقدرته على تحصيل حقوقك فلن تربح القضية يحكي أحدهم إليك قصة أو حادثة أو يروي لك حديثاً فأول ما يفعل في بدء القصة وآخرها أن يستحلفك بعدم روايتها لأحد فكأنه (واثق) سلفاً من عدم (الثقة) بك أو كأنه مقتنع أنك ستنقل كلامه على الملأ أو كأنه يحثك على أن تذيع الخبر بين الناس لغاية في نفسه. تشترك في عمل تجاري مع أحد الناس فتغفل أنت وشريكك عن عملكما وعن ازدهاره بمراقبة كل منكما للآخر تروي قصة فعليك أن تقسم أنها صحيحة فور انتهائك من سردها ويروي أحدهم لك حادثة فتسأله على الفور هل هي صحيحة ولعل الثقة تبلغ ذروة البشاعة عندما تكون معدومة بين أفراد العائلة الواحدة حيث لا يثق الزوج والأب بأبنائه والأخ بأخيه فالثقة تصبح مصيبة عندما تفقدها في شخص تسلمه أملاكك أو بيتك أو شيئاً عزيزاً عليك وأزمة الثقة هذه أعتبرها من أبشع الأزمات التي تلحق بالناس فأنت إن لم تكن واثقاً من نظافة الماء فهل تشربه؟ إن لم تكن واثقاً من الطاهي فهل تأكل طعامه؟ وإن لم تكن واثقاً من متانة الكرسي فهل تجلس عليه؟ وإن لم تكن واثقاً من حب فتاتك فهل تتزوجها؟ وإذا تزوجتها ولم تكن واثقاً من إخلاصها فهل تحبها وتأمن جانبها؟ الجريدة إن لم تكن واثقاً من صدقها وصراحتها هل تنتظرها كل صباح ؟ صحيح هنالك أزمات مالية واقتصادية وأخلاقية ولكن أزمة الثقة أشد هذه الأزمات بل إنها تسبب إلى حد كبير في خلق هذه الأزمات وطبيعي أن تشتد الأزمة الاقتصادية عندما تفقد الثقة بين التجار وبين الناس أي بين البائع والمستهلك.
انعدام الثقة بين المواطنين هي ثقافة زرعها المستعمر وكرسها أذنابه لكي لا نكون يد واحدة أي بمعنى أن لا نكون يد واحدة ضد الفساد ضد من يسرقون البلد وينهبون ثرواته لأنه كلما كبرت فجوة عدم الثقة بيننا كل ما استمر حال المفسدين وأذناب الاستعمار في ازدهار.