الملل و الاكتئاب يمكن أن يصيب أي شخص في أي وقت فلا يوجد هناك شخص محصن من الإصابة به كما أنه يصيب الناس من جميع الطبقات والفئات الاجتماعية. ومع أن بعض حالات الاكتئاب تصيب الناس من دون أي أسباب معروفة إلا أن معظم مسببات الاكتئاب تكون كردود فعل لمتغيرات الحياة. عادة ليست كل التغييرات في الحياة تؤدي إلى الاكتئاب إلا أن هناك بعض الأسباب السياسية و الاجتماعية الشائعة تتسبب إصابة المواطنين بالاكتئاب.
ففجأة تسأم نفسك وعملك ومحيطك يساورك سأم عميق ومفاجئ من كل شيء خصوصا عندما ترى السياسة وقد تحولت إلى عبث ومطالب الناس تقابل بالقمع في الشوارع وأصواتهم يتم خنقها حتى لا يصل أنينها إلى الأسماع تتمنى أن تسترجع صورتك الضائعة حيث ملامحك الطبيعية الأولى الهادئة والخالية من التوتر والغضب أن تعود إلى أصدقائك القدامى الذين تقاسمت معهم الأقسام الباردة في الثانوية والشعارات الصاخبة في ساحة الجامعة وقصص الحب الفاشلة على العتبات الأولى للحياة. فجأة يساورك سأم جارف من جلسات النفاق الاجتماعي في فنادق والمراكز التي يدعوك إليها أشخاص تافهون يعتقدون أنفسهم مهمين بالنسبة إلى العالم. تشتاق إلى جلسات المساء فوق ربوة في ضواحي مدينتك الصغيرة تراقب أسراب الطيور وهي تعود إلى أعشاشها لتطعم صغارها. تشتاق إلى رؤية الأفق ملطخا بحمرة الغسق والشمس المتمايلة إلى الغروب قبل أن تعود إلى البيت لتأكل خبز الأم المدهون بالسمن وتجلس إلى حضن الجدة لتحكي لك حكاية القديمة التي تشبه الوطن والتي من شدة الحرص على أبنائها أكلتهم. تسأم التلفزيون ومذيعيه السخيفين الذين يبتسمون ببلاهة ويضحكون بلا مناسبة تسأم برامجه التي تصيب بالضغط الدموي والانهيار العصبي وتتمنى لو أنك تفرغ الجهاز من أسلاكه وتحوله إلى أكواريوم تربي فيه الأسماك بدل رؤية هؤلاء المذيعين يربون المواطنين يوميا على البلادة. تسأم الشعب وشكواه من الدولة وحماقاتها التي لا تنقطع تسأم الأغنياء وتفاهة أفكار وتسأم الفقراء وكثرة بكائهم تسأم المقاهي وجلساتها الجيران وضوضاء أطفالهم البيت ورائحة الأحباب الذين غابوا عنه. تسأم الشارع وأشجاره التي يتبول على جذوعها السكارى في آخر الليل التاكسي وسائقه الذي يريد أن يتحدث في كل المواضيع تسأم الشعب الذي يريد كل شيء ولا يريد بالمقابل أن يضحي بأي بشيء….
تسأم من هؤلاء السياسيين البليدين جدا والأنانيين جدا والأميين أحيانا والذين يدعون دائما تمثيلنا ويأخذون الكلمة دائما بأسمائنا في كل المناسبات تتمنى أن تستريح من رؤية وجوههم السمينة والمملة التي قضينا حياتنا السابقة مضطرين إلى تحملها في الجرائد والتلفزيون والجامعات والمقرات الحزبية والنقابية. تسأم من اليمين المنافق واليسار المخادع والوسط المتواطئ وتتمنى لو أنك في جزيرة بعيدة بلا أحزاب بلا برلمان بلا حكومة تعيش على السمك وحبات الجوز ومياه الينابيع بلا شعارات بلا برامج بلا أكاذيب وأن تقضي وقتك في قراءة الخطوط على راحة كفك عوض قراءة الجرائد وفي عد النجوم بالليل عوض عد الأيام التي تفصلك عن موعد تسلم راتبك.وتسأم المدينة المتسخة وشوارعها القذرة المزدحمة بالمارة العجولين وتسأم زعيق أبواق السيارات المجنونة وتتمنى أن تعود إلى الجبل حيث عاش أجدادك قبل مئات السنين هناك حيث أشجار الزيتون وحقول القمح هي كل ثروتهم على هذه الأرض بالإضافة طبعا إلى احتياطي كبير من الكرامة. تسأم من رؤية كل تلك الجيوش من العاطلين والمتسولين والأطفال الضائعين في الشوارع كل أولئك الفتيات مكسورات الجناح الجالسات في المقاهي بانتظار من يشتري منهن لحمهن الطري. يصيبك القرف من رؤية مبنى البرلمان محايدا وصامتا وبلا معنى وسط العاصمة. تشعر بالغضب وأنت ترى الحكومة مرتبكة والمعارضة مقطوعة اللسان والجميع متفق على احتراف الصمت مهنة أبدية وتتمنى أن تكون لديك عصا سحرية لتضرب بها رؤوس كل هؤلاء وتحول البرلمان إلى مكان يتشاجر فيه النواب دفاعا عنا عوض أن يناموا وتضرب بها رأس الحكومة فيتحول وزراؤها إلى شخصيات حكومية عوض أن يبقى بعضهم مجرد شخصيات بهلوانية تمثل في مسلسل هزلي لا يضحك أحدا.
وفي أخير رغم أني ابكي دما عليك و سأمت وكرهت كل شيء فيك يا وطني وفي بعض المرات ألعن اليوم الذي فتحت عيني فيك لكنني اخترُتك يا وطني حُبّا وطواعية إني اخترتك يا وطني سِراً وعلانية إني اخترتك يا وطني فليتنكّر لي زمني ما دُمْتَ ستذكُرني يا وطني الرائع يا وطني .