لم أستطع توديع أميرة و لا زياد الصغير فقد جمعت حقائبي بسرعة و توجهت للمطار، كي أركب أول طائرة متوجهة للوطن .. و مر الوقت في الطائرة كأنه الدهر .. و لم أتوقف لحظة عن الدعاء للخالة حتى وصلت و ذهبت مباشرة عند جدتي و رميت حقائبي ثم توجهت لبيت خالتي فاطمة.. فتحت السمراء الباب و تطلعت إلي بحقد لكني لم أكن في مزاج مناسب كي أبادلها نظراتها تلك .. لم أكن أرغب سوى برؤية الخالة فاطمة، فدخلت مسرعة إلى غرفتها .. كانت راقدة على السرير و قد شحب وجهها و برزت عيناها و السعال يمزق صدرها، انحنيت عليها أقبلها ..
– خالتي .. اشتقت لك يا خالتي .. اشتقت لك كثيرا …
– ريمه ؟ حبيبتي .. متى عدت ..
– الآن فقط .. سامحيني لأني لم أكن قربك وقت مرضك، سامحيني ..
– لا بأس يا ابنتي، قد حان أجلي ..
– لا تقولي هذا يا خالتي، ستشفين و تصبحين بخير ..
و انتابتها نوبة سعال حاد من جديد، فدخل إياد مسرعا، و عيناه تنطقان بوجع شديد و خوف كبير .. أعطاها شربة ماء فأمسكت يده و وضعتها على يدي و قالت بصوت حنون ..
– كنت أتمنى رؤية أطفالكم .. كنت أتمنى لو يكبرون أمام عيني .. لكنه قدر الله …
سحبت يدي بسرعة، و قد ارتبكت مما قالته .. خصوصا أن السمراء كانت بالغرفة .. فقبلت يديها ثم استأذنتها كي أخرج لكنها همست لي بصوت مبحوح ..
– ابقي قليلا يا بنيتي ..أريد أن أشبع منك .. من يعلم .. قد تكون هذه ليلتي الأخيرة ..
– لا تقولي هذا يا خالتي .. ستشفين و ستصبحين بخير .,
و لم أكد أكمل جملتي حتى اشتد عليها الألم، و تصبب وجهها عرقا، و إياد يصرخ في الطبيب أن يفعل شيئا كي يخفف عنها، حتى رفعت سبابتها للسماء و تمتمت بالشهادة و فاضت روحها ..
لم أستوعب ما حصل، لم أصدق أنها ماتت .. غطاها الطبيب فصرخت فيه أن يزيل الغطاء،لأنها مازالت حية .. إنها نائمة .. لا بد أنها نائمة فقط .. خالتي لم تمت .. خالتي لا يمكن أن تتركني وحيدة .. لقد .. لقد كانت تسرح شعري و أنا صغيرة حين كانت أمي ترفض ذلك .. لقد كانت تاخذني للبحر حين كان الكل يرفض ذلك .. لقد … لقد كانت تطبخ البيتزا التي أحبها من أجلي .. لقد .. لقد كانت تحبني أكثر من أولادها … لا .. لا .. هي لا تمكن أن تموت …
كان إياد في الزاوية الأخرى من الغرفة يبكي بصمت .. كانت أول مرة أراه يبكي فيها .. أعرفه منذ عشرين سنة .. منذ أن كنا طفلين و كانت هذه أول مرة أراه يبكي فيها بحرقة .. كنت أريد أن أواسيه رغم أني أحتاج المواساة مثله،تماسكت نفسي ثم توجهت نحوه و قلت له
– لا تحزن يا إياد .. إنها في الجنة .. هذا أمر الله ..
– و لا اعتراض عليه ، لكني لا أقدر على فراقها يا ريمه .. لا أقدر ..
– فصبر جميل .. صبر جميل يا إياد .. ادعو لها بالرحمة و المغفرة ..
– لا أقوى على فراقها .. لا أقوى ..أمي .. أمي .. الحضن الدافئ الذي ألجأ له .. امي الحبيبة ., تركتها لست سنوات ، لقد تركتها وحيدة .. و عندما عدت حرمت منها .. أمي .. أمي .. حرمت منك يا أماه و أنا مازلت محتاجا لك ..
– كفى يا إياد .. كفى .. ادعو لها .. ادعو لها ..اصبر يا إياد .. إنما الصبر عند الصدمة الأولى ..
– اللهم إني راض بقضائك يا الله .. فهون علي فراقها .. اللهم إن قلبي يتقطع .. فهون عليه يا رب .. اللهم اغفر لها و ارحمها و أبدلها بيتا خيار من بيتها و اغفر لي تقصيري في حقها .. اللهم إني ما أوفيتها حقها فاغفر لي تقصيري .. سامحيني يا أمي .. سامحيني يا حبيبتي .. أيا من لا تنامين حتى أنام، و لا ترتاحين حتى أرتاح .. أيا حبيبتي يا أمي .. ربي ارحمها .. ربي هون عليها ضمة القبر .. ربي إنها كانت صالحة طيبة يحبها الجميع فارزها جنتك .. ربي اربط على قلبي … صبرني يا رب .. صبرني يا رب .. صبرني ..
لم أحتمل .. لم أحتمل رؤيته منهارا .. أردت أن أضمه … أردت أن أضمه و أمسح دموعه .. لكن السمراء جرت نحوه بينما أمسكت ليلى من يدي و أخذتني إلى المطبخ ..بقيت معهم طوال اليوم أستقبل الناس حينا و أحمل يسرى في حضني حينا آخر حتى نامت ، فدخلت لأضعها في السرير في غرفة إياد، وجدت صورته فنظرت إليها مليا ثم أمسكتها و تنهدت طويلا …آه يا إياد .. يا حرقة قلبك يا إياد .. اللهم ارزقه الصبر يا رب ..
و فجأة ظهرت السمراء من حيث لا أدري .. و صرخت في وجهي ..
– ما الذي تفعلينه هنا ؟ ما الذي تفعلينه بغرفتي ؟
– أنا .. أنا .. لقد وضعت يسرى .. لقد نامت .. و ..
– لم تمسكين بصورة زوجي ؟ أيتها الحقيرة أتظنين أن باستطاعتك خطفه مني .. أتظنين أن خطتك الدنيئة ستنجح ..
– اصمتي .. أنا لا أحاول خطف زوجك ..
– و ماذا تسمين كل هذا ؟ ما الذي تفعلينه هنا ؟ تتظاهرين بأنك حزينة من أجل وفاة والدته كي تظفري به .. لن تفوزي به .. لن أدعك تفعلين ذلك ..
– ما الذي تقولينه يا هذه ؟
– أقول لك الحقيقة .. ابحثي عن رجل آخر تلعبين عليه لعبتك و دعك من زوجي ..فتمثيلك هذا لن يفيدك في شيء ..
– اصمتي .. اصمتي .. اصمتي .. كيف تقولين مثل هذا الكلام في مثل هذا الوقت ؟
– لا تتظاهري أمامي .. اسمعي .. إياد لا يحبك .. لا يحبك .. ألا تفهمين ؟ أفيقي من هذا السراب .. أفيقي ..
لم أحتمل ما قالته فصرخت في وجهها اصمتي .. اصمتي .. و فجأة دخل إياد الغرفة و الشرر يتطاير من عينيه ..
– ما الذي يحدث هنا ؟ ما الذي تفعلونه هنا ؟ ما هذا الصراخ ؟
و بدأت السمراء تقول و هي تبكي ..
– لقد أهانتني .. أخبرتني أنك تحبها و أنك تزوجتني شفقة منك .. و أخبرتني أنك ستتركني من أجلها ..
– ما هذا الهراء ؟ ما هذا الكلام يا ريم ؟ أمي ماتت للتو .. أمي ماتت للتو و أنت تنطقين بهذا الهراء ..
كنت مصدومة من كلام تلك الأفعى .. حاولت أن أدافع عن نفسي لكن إياد لم يترك لي فرصة لأنطق حتى ..
– لو كانت أمك يا ريم لكان قلبك محروق عليها و لما فكرت في شيء غيرها .. لما همك شيء .. لكنها ليست أمك .. إنها أمي أنا ..
– لكن يا إياد .. أنا لم ..
– اصمتي .. أرجوك .. اذهبي الآن .. اذهبي ..
خرجت من بيتهم إلى بيت جدتي كي آخذ حقائبي و أذهب لشقتي، فقد كنت محتاجة لأن أبقى وحدي .. كما كنت دوما .. وحيدة ..
رميت نفسي بسرعة على أقرب كرسي وجدته، كنت مرهقة بشدة .. مرهقة الروح و الجسد .. ظللت أحملق في السقف طويلا و أطلقت العنان لدموعي ..أوجعتني السمراء .. أوجعتني بشدة .. الظلم ظلمات .. الظلم ظلمات .. أي قلب تحمل بين أضلعها .. أي حب هذا الذي يجعلنا نكذب و نمثل و نتظاهر بهذه الطريقة .. لقد كسبت أيتها السمراء .. إياد لك .. لك وحدك و ليس لي فلم تؤذينني هكذا .. لم تحرمينني أن أشم رائحة خالتي .. أن ألمس سريرها .. لم .. لم ..
تفقدت بريدي فوجدت رسائل عديدة من الجمعية، و رددت برسالة واحدة فقط تتضمن استقالتي .. لم أعد أستطيع البقاء فيها بعد أن اكتشفت أن كل ما ناضلت من أجله من سنين مجرد هراء .. و لم تكن لي طاقة كي أشرح لهم سبب استقالتي أو أجادلهم في مبادئ لن يتخلوا عنها بسهولة كما رفضت أن أتخلى أنا عنها لسنين حتى هداني الله .. و بصراحة .. كنت خائفة .. كنت أخشى أن يغلبوني و يقنعوني من جديد بما أصبحت متيقنة من أنه خطأ ..