توقف قلبي عن الخفقان، أو هكذا خيل إلي .. و اسودت الدنيا في عيني .. كنت كمن كان يسبح في اتجاه سفينة تنقذه من الغرق، ثم ما لبث أن وصل إلى السفينة حتى وجدها مجرد وهم أو سراب .. كمن عاش سنين على أمل .. ليكتشف في النهاية أنه أمل مبتور .. حملقت فيه طويلا فيما توقف هو الآخر عن الكلام ليمنحني فرصة لاستيعاب ما قاله، أو ربما لأنه كان يدري أنه ما من كلام يقال بعد ما تفوه به للتو .. سألته بصوت مبحوح ..
– أهي .. أهي تلك السمراء التي رأيتها في بيتكم إذن ؟
– أرأيتها ؟
– نعم .. زرت والدتك صباحا .. ألم تخبرك السمراء ؟
– إسمها سارة .. لا لم أذهب للبيت منذ الصباح ..
– سارة ..آه نعم .. إذا سارة هذه كانت تعيش في فرنسا ..
– نعم .. لكنها تجيد اللغة العربية .. و العامية أيضا ..
– أعلم .. لقد تحدثنا ..
– كما أنها محجبة .. فأمها كانت فرنسية اعتنقت الإسلام و قد كانت مسلمة حقيقة ..
صحت فيه غاضبة ..
– ما الذي تقصده ؟
– لا شيء ..
– أتلمح إلى كونها هي الفتاة الباريسية محجبة و أنا لا ..
– أنا لا ألمح لشيء يا ريم ..
– لا يهمني يا إياد .. إن فضلتها علي بسبب هذا .. فهذا شأنك وحدك .. لا يهمني ..
– أنا لم أفضلها عليك يا ريم ..
– الحجاب حرية شخصية و لا يحق لك أن تلمح لي في كل مرة بشأنه .. خصوصا الآن .. لم يعد يحق لك بأي شيء ..
– ليس حرية شخصية يا ريم .. إنه فرض .. فرض .. و ليس شأنك وحدك .. هو يؤثر على الكثيرين صدقيني .. و أنت أول من أثر عليك …
– ما الذي تقصده ؟
فقال بغيظ .
– يكفي يا ريم .. يكفي عنادا .. لطالما أتعبني عنادك هذا ..
– لذلك تخليت عني ..
– أنا لم أتخل عنك يا ريم ..
– نعم .. أنت فقط تركتني لتتزوج من أخرى ..
– لم أكن أنوي ذلك و الله يا ريم .. كنت أريد أن أعود من أجلك ..ظننت أنك ستراجعين نفسك في هذه السنوات، و ستنضجين أكثر و حينها سأعود لنتزوج مباشرة .. لم أكن أريد أن نرتبط قبل أن أكون قادرا على الزواج .. و لكن .. حصل ما لم يكن بالحسبان
– من أجل أن توفي بوعدك لعمك ناسيا أنك وعدتني قبله بسنين ..
– كفى يا ريم .. أنت لم تنتظريني أصلا ..
– أتقصد باسم ؟ و كيف أنتظرك و قد رحلت دون حتى أن تودعني أو تشرح لي .. أتقصد باسم الذي تركني بعد شهرين لأني كنت أخطأ و أناديه باسمك .. لأني كنت لا أزال عالقة في ذكراك .. لأني كنت أحاول أن أداوي به جرحك ..
– ريم .. أنا ..
– ريم ؟ منذ متى أصبحت ريم بدل ريمه .. كيف تريد أن تحولني في لحظة إلى مجرد صديقة .. لقد كنت حبيبتك و خطيبتك و رفيقة عمرك .. كيف تريد أن تأخذ مني كل هذا و تجعلني مجرد واحدة منهن .. كيف تظن أنه قد يأتي يوم أنظر فيه إليك دون أن يرتعش قلبي .. أ تظننا في رواية تستطيع الكتابة فيها أن تبدل الأدوار كما تشاء فتجعل البطل مجرد ضيف شرف .. أنت لم تحبني يوما .. أنت لا تعرف ما هو الحب لو كنت تظن أنه يمكن أن يصبح مجرد صداقة بهذه السهولة ..
– أرجوك لا تبك .. و الله إني لا أحتمل رؤية دموعك .. و الله إني لا أقدر .. لولا سارة لما ترددت لحظة في الزواج منك ..
سعدت بجملته هذه أيما سعادة، و لم ألق بالا ل ” لولا ” التي ختمها بها، كل ما كان يهمني هو أنه مازال يحبني و هذا كاف لينعش الأمل في قلبي .. و ليشيد جسر الأماني فيه من جديد .. صحت فيه بانفعال واضح ..
– سارة ؟ و ما شأننا بسارة ؟
– إنها زوجتي يا ريم .. زوجتي .. أنسيت ذلك ؟
– لكنك تزوجتها بدافع إنساني لا غير .. تزوجتها لتعتني بها و لتحميها .. طلقها .. طلقها إذن .. ستكون بخير رفقة والدتك .. طلقها و لنتزوج .. و ستجد شخصا آخر يحبها و يتزوجها .. إنها جميلة .. جميلة جدا، فاتنة .. ألف رجل يتمنى زوجة مثلها ..
– هل تدركين ما تقولينه يا ريم ؟ كيف يعقل أن نكون بهذه الأنانية .. أنا لا أبني سعادتي على أنقاض الآخرين .. أنا لا يمكن أن أطلقها .. لا يمكن .. مستحيل ..
– إذا .. إذا .. لابأس ..لاتطلقها .. تزوجني و لا تطلقها ..تزوجني فقط ..
– هل جننت يا ريم ؟
– لا لم أجن .. أنا عاقلة .. ألا يجوز لك الزواج من أربع نساء ..
– نعم أتزوجك و أحول كل واحدة منكما إلى امرأة من لهب .. تحرق بغيرتها نفسها و كل من حولها .. سأظلمك و أظلمها و أظلم نفسي … أنت لا تفكرين بمنطقية يا ريم .. هذا لا يعقل حقا … بعد كل هذه السنوات مازلت لم تنضجي بعد .. ترين الأمور بطريقك الخاصة البسيطة السهلة ..أنت لا تفكرين في عواقب ما تقولينه و لا تتقبلين الواقع كما هو .. لقد انتهى كل شيء يا ريم، انتهى بلا رجعة .. انتهى ..
لم أنطق بكلمة .. قمت من مكاني بسرعة البرق و خرجت من المطعم أهيم في الشوارع وحدي و مخالب الذل تنهشني .. أحببته لدرجة أني نسيت الكرامة .. نسيت العزة .. نسيت كل شيء و ما عدت أتذكر سوى حلمي بأن أكون معه ..
نسيت كم أوجعني .. كم آلمني .. كم قهرني .. و غفرت له في لحظة كل ما اقترفه لسنين .. بل و ترجيته أن يهبني الخلاص مما أنا فيه و يحقق لي حلما لطالما اشتهيته .. فأهانني و أذلني ..
ينهي كل شيء ببساطة كما بدأه ببساطة .. دخل حياتي عنوة و اقتحم أسوار قلبي ثم رحل دون أن يكترث .. و عاد مرة أخرى كي ينتزع السكينة من حياتي من جديد .. لم أكن سعيدة و لم تكن حياتي مثالية .. لكني على الأقل لم أكن جريحة كما أنا الآن .. كنت راضية بما قدره الله لي .. أعيش حتى ينقضي عمري .. كنت قد يئست من الفرح فكيف له أن يأتي و يذيقني طعمه ثم يحرمني منه تاركا في قلبي لوعة فقده .. لطالما اتهمني بكوني غير ناضجة .. تافهة .. مزعجة .. أخنقه و أضيق عليه، كان يراني كطفلة .. مجرد طفلة لم يعد له طاقة بتحملها فرحل عنها ..