و قبل أن أرحل فكرت في زيارة الخالة فاطمة التي تسكن في المبنى المجاور، عودة إياد لن تغير شيئا في حياتي، سأزورها كما كنت أفعل منذ ست سنوات .. و لا بد أن إياد لا يزال في الجريدة، إذا لا داعي للقلق ..
وقفت لدقائق أمام الباب، و كدت أتراجع و أعود للبيت حتى فتحت الصغيرة يسرى الباب و هي تمسك دراجتها ثم قفزت إلى ذراعي ..
– خالتي ريم .. اشتقت إليك ..
– و كذلك أنا يا صغيرة .. كيف حالك ؟
– بخير، لقد اشترى لي عمي دراجة جميلة .. انظري إليها ..
– إنها رائعة ..
– سأذهب لركوبها الآن .. سأنادي لك أمي ..
و ظهرت ليلى زوجة أخ إياد .. لم تكن فاتنة .. كانت جميلة فقط .. جميلة ذلك الجمال الهادئ البسيط .. الذي لا يلفت الأنظار .. و لا يخطف القلوب .. و لا يثير الإعجاب .. ذلك الجمال الذي يغلب عليه جمال الروح لا الشكل و منذ سفر إياد و هي تأتي دوما لزيارة الخالة فاطمة و كثيرا ما كنت ألتقي بها ..عانقتني بقوة ثم قالت بفرح للخالة فاطمة ..
– ريم جاءت يا خالتي ..
– أهلا يا ريمه .. كيف حالك يا حبيبتي ؟ غبت طويلا عني هذه المرة ..
– أعتذر يا خالة .. العمل يشغلني كثيرا، كيف حالك أنت ؟
– بخير و لله الحمد يا ابنتي …
– هل تأخذين الدواء في الموعد ؟
– نعم يا ابنتي ..
و سرعان ما أطلت من الغرفة الأخرى فتاة سمراء فاتنة، تزيدها جمالا تلك المساحيق التي أتقنت وضعها على وجهها، و ذلك الفستان الأنيق الأحمر .. لا أظن أنها قريبتهم فأنا لم أرها من قبل هنا، و هي لا تشبههم مطلقا .. بقيت أحملق فيها للحظات حتى نظرت لي ليلى و قالت ..
– ريم .. أعرفك بسارة..
– أهلا سارة .. سعيدة بمعرفتك ..
– أهلا آنسة ريم .. سمعت عنك الكثير ..
– حقا؟ أرجو أن تكوني قد سمعت كلاما طيبا ..
– بالتأكيد .. فالكل هنا يحبونك .. لقد سحرت الجميع ..
– و أنا أحبهم جدا ..
– هذا أكيد ..
كانت تكلمني بنبرة غريبة، كأن بيننا ثأر قديم رغم أني عرفتها منذ لحظات فقط .. بدت لي ليلى مرتبكة أيضا من طريقة كلامها .. ثم نادتني خالتي فاطمة لأجلس قربها و بدأت تمسح على رأسي بحنان ..
– هل أنت بخير يا ابنتي ؟
– نعم يا خالة .. و كيف لا أكون بخير و قد رأيتك ..
– تبدين مريضة ..
– إنه الزكام يا خالة .. هذا كل ما في الأمر، أنا بخير .. لا تقلقي .. سأذهب الآن يا خالتي
– لقد جئت للتو يا ريمه .. ابقي لتتغذي معنا ..
– لقد تغذيت مع جدتي يا خالة ..
حضنتني بقوة و قبلت رأسي، فسالت دموعي رغما عني بينما خرجت سارة تلك بسرعة من الغرفة و تبعتها ليلى .. قبلت يد الخالة و ودعتها و رحلت بسرعة دون أن أودع ليلى أو تلك السمراء الغريبة ..
عدت إلى شقتي مثقلة بالآلام، و في رأسي صوت يهمس ماذا لو ..
ماذا لو كنا بقينا سويا يا إياد .. و عشنا بسعادة جميعا .. أنا و أنت و خالتي فاطمة .. و أنجبت ليسرى ابنة عم تلاعبها .. ماذا لو كنا أكملنا الحكاية و جعلنا حبنا حقيقة لا خيالا، و أهديتني خاتما و أهديتك عمرا .. و ظللت بعيني فارسا و ازددت لك في كل يوم عشقا ..
لم أكد أغير ملابسي حتى سمعت صوت الجرس فمسحت دموعي بسرعة، و قمت لأفتح الباب فوجدته أمامي .. هو نفسه ..من يقتحم واقعي و خبالي .. سألني بحنان ..
– كيف حالك الآن ؟ أخبروني في الجريدة أنك مريضة ..
– أصبحت أفضل شكرا لك .. تفضل .. و اترك الباب مفتوحا ..
استغرب لجملتي فقال معقبا :
– لم أكن سأغلقه ..عذرا .. لقد ظننت أن والديك سيكونان هنا ..و إلا ما كنت حضرت .. على كل حال سأرحل الآن ..
– حسنا .. شكرا لزيارتك ..
و هممت بغلق الباب قبل أن يسألني ..
– هل أنت حقا بخير ؟
– نعم .. إنه مجرد زكام .. و قد أخذت الدواء .. و ..
فقاطعني و هو يشير لأهدابي المبتلة بالدموع …
– لم أكن أقصد ذلك .. تبدين كأنك كنت تبكين ..
لم أتمالك نفسي، فأطلقت لعيوني العنان كي أبكي و أبكي و أخرج كل الألم الذي يعتصر قلبي .. وقف أمامي مصدوما، لا يدري ما عليه فعله، لا يستطيع أن يأخذني في حضنه، و لا أن يربت على كتفي بيده، ثم اقترب مني و بدأ يقول بصوت مخنوق ..
– يكفي يا ريم .. لا تبكي .. أرجوك ..لا تبكي يا ريمه .. لا أحتمل .. و الله لا أحتمل رؤية دموعك ..
نظرت إليه مطولا ثم سألته
– لم يا إياد ؟
– عذرا ؟
– لم تركتني ؟
– ريم .. أنا ..
– أخبرني فقط .. لا أريد سماع كل تلك المبررات التي أخبرتني بها حينها .. لم أصدقها .. لم أفهمها .. تشاجرنا مرة كما كنا نتشاجر دوما، كما كان كل الناس يتشاجرون .. و فجأة سمعت أنك سافرت لفرنسا دون حتى أن تودعني ..لم تكلف نفسك العناء لتشرح لي حتى .. تركت لي رسالة قصيرة تقول لي فيها أننا مازلنا صغيرين و أننا سننسى مع مرور الوقت .. فقط .. هذا كل ما قلته ..
– لقد كنا صغيرين فعلا يا ريم ..
– لكننا أحببنا بعضنا بصدق .. و رغم أنك تركتني إلا أني أعرف أنك أحببتني بصدق حينها .. أخبرني الحقيقة يا إياد .. أستحق أن أعرف ..
– لم نكن نناسب بعضنا .. الحب ليس كل شيء .. لم أستطع أن أتحمل نمط حياتك و لم يكن اي واحد منا مستعدا للتضحية من أجل الآخر .. كنا نتشاجر طوال الوقت بسبب تحررك المبالغ فيه و أنا سئمت ..
– أهذا كا ما في الأمر ؟ لو وضعت قطعة قماش فوق رأسي لأصبحت بنظرك أكثر طهرا ؟ لأصبحت مناسبة ؟ لأصبحت أستحق .. قطعة القماش تلك لم تكن لتزيدني شيئا .. لكن و الله إني لكنت أحبك لدرجة أني كنت لأفعل ذلك من أجلك ..
– لا أريد أن تفعلي ذلك من أجلي … أريد أن تقعليه من أجل خالقك .. لأن عليك أن تفعلي ذلك ..
– أهذا كل ما في الأمر ؟
– افهميني يا ريم .. لم أستطع تحمل نظراتهم الجريئة إليك .. و لا صداقاتك البريئة المتعددة .. و لم تكن هذه الحياة التي أريد أن أحياها مع زوجتي ..لم أستطع أن أحتمل .. و لم أستطع أن أخبرك ذلك مباشرة كي لا أجرح كرامتك .. شجارنا الأخير و الدراسة في فرنسا كانت فرصتي لأنهي تلك المهزلة .. لو كنت أخبرتك الحقيقة لكنت وعدتني أن تتغيري و كلانا يعلم أنك ما كنت تستطيعين الوفاء بمثل هذا الوعد حتى لو كان ذلك من أجلي ..
– أنت كاذب .. لو كنت أحببتني .. لأحببتني كما أنا دون أن ترغب في تغيير شيء في .. أنت كاذب و مخادع و أناني .. ارحل .. ارحل بسرعة .. لا أريد رؤيتك ثانية .. ارحل ..
و ما أن رحل و أغلق الباب ورائه حتى خرجت مهرولة دون أن أعرف إلى أين تقودني ساقاي .. شعرت بالإهانة، بالاحتقار، بالألم .. أظلمت الدنيا في عيني، و لم أعلم كيف وصلت إلى العيادة .. عيادة الطبيب النفسي الذي كنت أتردد عليه من حين لآخر كلما فاض بي الكيل ..
كادت الممرضة أن تبدأ في كلامها السخيف بشأن ضرورة حجزي لموعد قبل الحضور، و أن الطبيب جد منشغل .. و أن الساعة تقارب الرابعة و ستغلق العيادة بعد قليل .. لكن رؤيتها لدموعي المنهمرة و عيناي المحمرتان جعلتاها تكتفي بالدخول بسرعة إلى الطبيب ثم العودة و السماح لي بالدخول ..
– أهلا آنسة سارة .. كيف حالك ؟
– لست بخير .. لست بخير على الإطلاق .. منهارة بشدة ..
– اهدئي و استلقي و أخبريني ما بك ..
– هو .. هو .. أكرهه .. أبغضه ..
– والدك ؟
– لا .. والدي لم أعتبره يوما أبا أصلا، إنه مجرد غريب لا صلة بيني و بينه سوى اسمه الذي أحمله .. أنا أتحدث عن من كان كل دنياي .. عن من أحببته من كل قلبي و ظننت أنه سيعوضني حب الأب و حنان الأم و يكون لي كل شيء .. فأذاني هو الآخر .. يبدو أني ملعونة .. لا أحد يحبني، لا أحد يرغب بي، لا أحد .. لا أحد ..
– آه .. إنه إياد إذن .. ألم تخبريني أنه سافر قبل سنوات؟
– بلى .. لكنه عاد ..
– لم ؟
– لا أعلم .. ظننت للحظة أنه عاد من أجلي .. أنه ندم .. لكن يبدو أنه عاد ليزيدني ألما ..
– هل مازلت تحبينه ؟
– أكثر مما كنت أعتقد … أنا لم أعد أحتمل أن أكذب على نفسي بعد اليوم .. خدعت نفسي برة حين وافقت على الزواج من باسم فآذيته و آذيت نفسي دون جدوى، و خدعت نفسي مرة أخرى حين ظننت أن العمل سيشغلني و لن أحس بالوحدة مرة أخرى لكني كنت مخطئة .. أنا وحيدة و حزينة و أحتاجه .. أحتاجه حقا ..
– تنفسي جيدا و استرخي يا ريم .. ماذا عنه ؟ هل مازال يحبك ؟
– لا أعلم … سيقتلني .. ينطق بكلمة ليجعلني أغرق في حيرتي ثم يرحل .. لا أعلم إن كان يحبني أم يكرهني أم يتلذذ بتعذيبي ..لم أعد أفهمه ..
– ريم … أتذكرين حين طلبت منك أن تجمعي كل رسائله و كل متعلقاته و تحرقيها .. أول خطوة في النسيان أن نفقد الأمل ..
– لقد أحرقتها .. أحرقتها كلها .. فلم لم أنسه إذا ؟
– مازلت لم تيأسي من عودته بعد .. كان لديك دوما أمل دفين .. عليك أن تفقدي الأمل كي تنسيه .. و كي تفقدي الأمل عليك أن تسمعيها منه .. كلميه يا ريم .. صارحيه و اطلبي منه أن يكون صريحا .. حينها فقط سترتاحين ..
كان الطبيب محقا، أنا لم أيأس أبدا، أنا لم أنسه لأني لم أرغب في نسيانه يوما .. لقد كنت أدعو الله دوما أن يعود لي، أن يجمعني به .. لم أيأس رغم مرور كل تلك السنين، و الليلة علي أن أضع حدا لكل هذا .. لم أنتظر أن يكمل الطبيب كلامه فقمت بسرعة و رحلت و اتصلت به و طلبت أن نلتقي بذلك المطعم المقابل للجريدة ..
تعمدت أن أتأخر قليلا كي ينتظرني هو بدل أن أجلس وحدي أترقب حضوره، بل و وقفت لدقائق أراقبه من بعيد .. كان يبدو وسيما في نظارته الطبية التي تضفي عليه طابع الجدية، مع تلك اللحية التي تزيد وجهه ضياء و نورا، ثم بدأ ينظر إلى ساعته فانتبهت إلى أني تأخرت كثيرا، و خشيت أن يلاحظ أني أراقبه فدخلت بسرعة ..
– السلام عليكم ..
– و عليكم السلام ..
– ظننت أنك لن تأتي ..
– لم ؟
– لا أعلم .. ظننت أنك ربما قد ترى لقائي خطأ بطريقة ما ..
– في الواقع إنه خطأ بأكثر من طريقة .. لكن .. دعينا من هذا .. كيف حالك ؟
– بخير .. أعتذر عما قلته .. كنت عصبية نوعا ما
– نوعا ما ؟
– تتصرف كأنك لا تعرفني و لا تعرف عصبيتي، على كل حال .. أردت أن نضع حدا لهذا ..
– حسنا .. هل نطلب البيتزا أولا ؟
– كما تريد .. لست هنا لأكل البيتزا .. أنا هنا لمعرفة شيء واحد فقط ..
– و هو ؟
– لم عدت يا إياد ؟
– و هل كان يجب أن أعيش في فرنسا بقية حياتي ..
– لم عدت إلى حياتي و ليس إلى الوطن يا إياد ..
– ريم .. أنا لم أعد إلى حياتك .. كان من الطبيعي أن أعود لبلدي بعد كل هذه السنين، و اخترت أقرب جريدة إلى بيتي و قدرا كانت نفس الجريدة التي تعملين بها ..
– إذا أنت لم تعد تحبني ؟
– ريم .. أنا .. أنا ..
– أجبني فقط بنعم أم لا ..
– افهمي يا ريم … الأمر ليس بهذه السهولة ..
– اشرح لي كي أفهم إذا ..
– حصل الكثير حينما كنت في فرنسا … في السنة الأخيرة توفي عمي و بقيت ابنته ذات العشرين ربيعا وحيدة .. لا أهل لها غيري، و لا عمل تعيش منه و لا حتى بيت تقيم فيه، فحتى المنزل كان مؤجرا فقط و كان صاحبه سيطرده منها في نهاية الشهر، فكان علي أن أحضرها للسكن معي بعد أن وعدت عمي بالاعتناء بها .. و لذا فكرت في الزواج منها ..لكن أمي رفضت ..
– لا فض فوك يا خالة ..
نظر إلي و على وجهه نصف ابتسامة ثم أكمل و الارتباك يعقد لسانه ..
– لكن لم أستطع أن أخلف وعدي، فتزوجتها ..و أحضرتها للوطن ..
![أمل مبتور5](https://aljazayr.com/wp-content/uploads/2016/08/44444.jpg)