كان قد طفح الكيل، و تعب كلانا من هذا النقاش العقيم فظل إياد صامتا و لم ينطق بكلمة ثم فجأة قال و هو يبتسم ..
– لقد أخبرتني أمي أنك كنت تزورينها في غيابي .. شكرا لك ..
– العفو .. كل ما في الأمر أنها كانت في حاجة لإبن و أنا كنت في حاجة لأم .. و كنت أحن لبيتي القديم كثيرا فأزور جدتي و الخالة فاطمة ..
– كانت تسعد بزياراتك كثيرا .. و تحكي لي عنها دوما كلما كلمتها ..
– و أنا ايضا .. حتى أنها كانت تبلغني دوما بسلام زائف ..
– و من قال أنه كانن زائفا ؟
– أكان حقيقيا إذا ؟
– ربما ..
كنت أكره إجاباته هذه التي تضعك بين الشك و اليقين، و لم تعد لي طاقة الآن لأحللها و أقرأ ما بين السطور .. كنت مرهقة .. مرهقة من الحياة، و مرهقة منه هو بالذات .. وصلنا إلى المكان المطلوب و تمت المهمة بسلام في وقت وجيز .. و ركبنا السيارة مرة أخرى عائدين إلى المقر، و مررنا بالبحر .. و لم أستطع مقاومة منظره الجميل فصرخت بفرح طفولي ..
– إياد أرجوك .. أنزلني ..
– ما بك ؟
– أنزلني هيا .. أريد أن أرى البحر .. سألحق بك في سيارة أجرة ..
– هل جننت ؟ البرد قارس و أنت لا ترتدين ما يدفيك ..
– لا مشكلة … توقف بسرعة ..
فتوقف و هو يهمس بكلمات لا أسمعها، غير أني استطعت أن أخمن أنها كانت بسملة و حوقلة و بعضا من أوصاف الجنون ..ثم لحق بي مضطرا ..
– لم نزلت ؟
– لا يجب أن أتركك وحدك ..
– و هل أنا صغيرة .. لقد تجاوزت العشرين بسنين ..
– تقصدين أنك قاربت من الثلاثين .. جميل أنه بقي فيك شيء من النساء ..
– ما الذي تقصده ؟ و هل أبدو لك رجلا ؟ ثم أني أردت الاستمتاع ببضع لحظات في البحر .. لم بقيت ..
– و هل أتركك بملابسك هذه ..
– ما بها ملابسي ..
– بها الكثير .. بغض النظر عن كونها غير محترمة .. فهي لا تليق بهذا الطقس البارد ..
– غير محترمة ؟ ملابسي عادية ..
– إذا لم لا يمر شخص إلا و ينظر إليك ؟
– ليس ذنبي .. أنا حرة و أستطيع ارتداء ما أريد .. فلتبعدوا أنتم اعينكم عني ..
– صعب ..
– صعب ؟
– نعم .. غض البصر صعب يا ريم … اصعب مما تظنين .. و ملابسك هذه تجعله أصعب بكثير ..
ثم خلع سترته و أعطاها لي كما يفعل أبطال السينما ليقوا بطلاتهم من البرد .. لكنه هو كان يريد أن يقيني من العيون .. رمقني بنظرة رجاء .. ثم قال ..
– ارتدي هذه .. أرجوك ..
– لكن ..
– أرجوك .. لا أحتمل حقا أن يرمقوك هكذا و أنت معي ..
– لم ؟ أيهين هذا رجولتك ؟
– اعتبريه كما شئت .. لكن ارتدي السترة فقط ..
ارتديتها بسرور لأن البرد جمد ذراعاي و ما عدت أحس بهما، غير أني بقيت أرمقه بنظرات كأني أسديت له للتوا معروفا كبيرا أستحق عليه وساما و جائزة، و لم يبادلني سوى بابتسامة قبل أن يقول ..
– تبدين أجمل هكذا ..
– آه طبعا .. مع خليط الالوان غير المتناسق هذا ..
– أنا جاد .. تبدين نقية ..
– نقية ؟ إياد ماذا تظنني ؟ أمضي الليل في الملاهي و المراقص .. أدخن و أشرب .. أنا مسلمة يا إياد .. مثلك .. أصلي، أصوم، أزكي .. كوني لا أخنق نفسي في ملابس أمي احتراما للرجال الذين لا يستطيعون غض أبصارهم لا يجعلني فتاة سيئة ..
– ريم .. أنا لم أقل ذلك .. أعلم أنك فتاة جيدا و إلا لما …
– و إلا ماذا ؟
– آسف .. آسف إن كنت جرحت شعورك .. لم أقصد .. سأنتظرك في السيارة
و ذهب ليتركني غارقة في بحر من الحيرة ، و مشاعر متضاربة لا أعرف كي أصفها .. و عيون تترجاه ليكمل جملة زرعت في قلبي الكثير من الشك .. و الحنين .. تركت البحر و ركبت السيارة و بقيت صامتة حتى وصلنا إلى المقر، باستثناء العطس المتكرر جراء الزكام .. نظر إلي للحظة كأنه يوشك أن يقول لي لقد حذرتك ، لكنه تراجع و آثر أن يبقى صامتا ..و قبل أن نصعد إلى المكتب قال ..
– سيحين موعد الغداء بعد نصف ساعة .. لنتغدى و بعدها نصعد
اعتذرت و قررت العودة إلى البيت .. دلفت شقتي و ألقيت نفسي على السرير، و بكيت قهرا .. من وحدتي .. من حياتي عديمة القيمة … بلا أب و لا أم و لا زوج و لا طفل .. سأعيش وحيدة ثم أموت وحيدة، دون أن يكون هناك حتى من يترحم علي ..
حين طلق والدي والدتي .. كنت صغيرة جدا، لم أكن أفقه شيئا .. سوى أني سأنتقل من بيتنا الكبير إلى بيت جدتي الصغير .. و لكني لم أكن منزعجة، فقد كنت أحب جدتي لأنها كانت تعد لي الحلوى اللذيذة و تحكي لي كل ليلة حكاية عن أميرة ينقذها أمير من تنين أو ساحرة .. ليعيشا معا في سعادة إلى الأبد، و كان هو أميري الذي ظننته سينقذني من مأساتي …لكنه زاد الطين بلة .. ابتلعت المنوم ثم نمت من جديد ..
استيقظت بعد ساعات .. محمومة .. متعبة .. و قد هد الزكام كل جزء من جسدي، كان ألم روحي حينها أشد بكثير من ألم جسدي، و أنا قابعة وحدي في هذه الشقة و لا أحد ليحضر لي شربة ماء أو حبة دواء، بعثرت الحقيبة أمامي و بحثت بسرعة عن الهاتف كي أتصل بمنى كي تحضر لي الدواء معها ..
حضرت منى بعد نصف ساعة و معها بعض الأدوية، مسحت بيدها على رأسي بحنان جعل الدموع تتجمع في عيني دون أن أجرؤ على أن أبكي أمامها .. كانت منى صديقتي و زميلتي، لكني لم أتعود أن أبكي أمام أحد لطالما أقنعت الجميع أني الفتاة القوية السعيدة ..و لم أدع لهم الفرصة لينظروا إلي نظرة شفقة .. فقد كنت أكره نظرات الشفقة .. توجهت منى إلى المطبخ كي تعد لي مشروبا ساخنا، فشكرتها و أخبرتها أني بخير و أنها تستطيع الذهاب فودعتني و رحلت بعد أن وعدتني أن تتصل بي للاطمئنان علي .. على كل حال هي لم تكن تستطيع أن تبقى أكثر، فلديها بيت و زوج و أطفال يحتاجون إليها ..
بعد دقائق وصلتني رسالة من رقم غريب .. ” السلام عليكم .. أرجو أن تكوني بخير .. نامي جيدا .. شفاك الله ..”
كانت رسالة من ذاك الذي لم أعد أعرف في أي خانة أضعه، في خانة العدو أم الصديق .. أم الحبيب ..اكتفيت بقراءتها بضع مرات دون أن أرد .. فلم تكن لي رغبة في استعادة ذكريات الماضي و رسائله ..
في الصباح كنت قد تحسنت قليلا، لكني فضلت أن ابقى في البيت حتى أستريح تماما و حتى تهدأ مشاعري المضطربة و أستعيد قوتي .. فتحت حاسوبي و ألقيت نظرة على صوره القديمة التي أخفيتها بمجلد و لم أرها منذ زمن بعيد دون أن أجرؤ على حذفها يوما .. صور التخرج من الثانوية، و صورنا يوم قبلنا بكلية الصحافة، صورة أول مؤتمر حضرناه .. ثم صور باسم .. باسم زميلي الذي كان يحبني منذ الأزل و رغم عمله أني كنت أحب إياد إلا أنه لم ييأس أبدا، فسر لفراقنا و تقدم لخطبتي بعد التخرج مباشرة .. رأيت فيه طوق النجاة من آلامي و رغبت أن ابدأ حياة جديدة إلا أني لم أستطع، لم أستطع أن أبادله نفس المشاعر، لم يستطع هو أن يعوضني عن إياد، حتى ضاق ذرعا و رحل هو الآخر .. فمأساتي بعده كانت أنه كان مثاليا جدا فلا استطعت أن أكون له، و لا أنا استطعت أن أرضى بغيره .. آه يا إياد يا ليتنا لم نلتقي .. لما عرفت أن في الرجال مثلك .. و لما كرهت كل الرجال بعدك ..
لا يجدر بي أن أغرق نفسي في بحر الذكريات من جديد .. فلأذهب لزيارة الجدة .. الشخص الوحيد في هذا العالم الذي أعلم حقا أنه يحبني .. قضيت معها ساعتين من أجمل ساعات حياتي، كانت تحتضنني كأنها ترغب في تعويضي عن حنان الأم الذي كان بالنسبة لي مجرد أسطورة .. و عن حب الأب الذي يقاس عند والدي بعدد الورقات المالية التي يضعها في حسابي ..