استيقظت صباحا على صوت المنبه المزعج الذي لولا أني أضعه بعيدا على السرير لكنت حطمته، لففت شعري المبعثر برباط و ارتديت الجينز الذي أحبه ثم نزلت مسرعة إلى عملي .. عملي ببساطة هو حب حياتي، لا أعلم إن كان ذلك بسبب عشقي للصحافة منذ صغري أم بسبب أنها الشيء الوحيد الذي أملكه الآن .. دلفت إلى المكتب و ألقيت سلاما عابرا على كل من فيه ثم جلست على مكتبي بعد أن طلبت كوب قهوة ساخنا من عمي حسين، ارتشفته بلذة قبل أن أبدأ عملي على المقال الذي علي تسليمه بعد ساعتين .. طلبت كوب قهوة آخر فالكافيين يمدني بالطاقة و بالإلهام لكتابة مقالاتي مما يجعلها تحتل دوما الصفحات الأولى في الجريدة..
انهمكت في كتابة المقال حين حجب ظل شخص ما الضوء عني، عضضت على أسناني بقوة و رفعت رأسي لأصرخ في وجه هذا الواقف أمامي دون أي اعتبار لكوني أعمل .. فوجدته شخصا غريبا .. لكنه بدا مألوفا ، مألوفا جدا .. ثم سرعان ما تذكرته ..
لم يبد عليه أي استغراب لرؤيتي، بينما كنت أنا كمن سكب عليه كوب ماء مثلج في يوم بارد في احدى مناطق القطب الشمالي .. مددت إليه يدي مرحبة فلم يجبني سوى بنظرات ذات مغزى، فسحبتها و قد علت وجهي حمرة خفيفة داريتها بابتسامة ..
– عذرا نسيت أنك ..
– كيف حالك يا ريم ؟
أجبت باستفزاز ..
– أفضل منك بكثير ..
– هذا واضح ..
– و أنت ؟
– الحمد لله ..
– ما الذي تفعله هنا ؟
– نفس ما تفعلينه أنتِ .. أعمل بالجريدة
ثم استأذن و رحل دون أن يترك لي فرصة طرح الاسئلة الكافية لإشباع فضولي، كان هناك الكثير لأسأله عنه .. فمنذ ست سنوات و أنا لا أعرف عنه شيئا .. لا أنكر أنه أصبح أكثر وسامة لكنه لا يبدو أن شيئا تغير فيه، ثقته في نفسه، هدوءه، مبادئه التقليدية الخانقة … كل شيء فيه مازال كما هو ..
انهمكت مرة أخرى في مقالي، قرأته مرة أخرى حتى أتأكد من خلوه من أي خطأ ثم نظرت إليه نظرة إعجاب و قلت في نفسي رئيس التحرير سيسر به كثيرا، فقد أصبحت مواضيعي التي تنادي بتحرير المرأة و منحها فرصة للتقدم تحظى بإعجاب القراء أو بالأحرى القارئات و قد كانت هذه القضية التي سخرت لها نفسي و قلمي ..
طرقت الباب فسمح لي المدير بالدخول، فوجدت إياد مازال موجودا بمكتبه، سلمت المدير المقال و بادرت بالانصراف لكنه أوقفني ليعرفني بالزميل الجديد ..
– الأستاذ إياد زميلكم الجديد..
– تشرفنا يا أستاذ ..
– الشرف لي يا أستاذة ..
– الاستاذة ريم من أكثر المحررين نشاطا في الجريدة .. مقالاتها دوما تلقى صدى كبيرا ..
خجلت من مدح المدير لي رغم أنه اعتلاني سرور داخلي لأني بشكل ما أثبت تفوقي لإياد، بينما اكتفى هو بالابتسام كعادته ..
عدت إلى مكتبي و إياد يشغل بالي .. بفضول صحافية لا أكثر أو ربما هذا ما كنت أتعلل به، و سرعان ما حدث ما لم أكن أتوقعه .. فقد دعاني إياد لأن نتغدى سويا بالمطعم المقابل للشارع كي أشرح له سير العمل في الجريدة على حد قوله .. و لم أكن لأرفض مثل هذا الطلب ..
اخترت طاولة قريبة من نافذة تطل على الشارع، فنظر لي ثم ضحك ضحكة صامتة ..
– ما الأمر ؟
– لا شيء .. لم تتغيري إطلاقا .. مازلت تحبين الجلوس قرب النوافذ حتى يتسنى لك مراقبة الآخرين ..
– أنا لا أفعل ذلك لمراقبة الآخرين … أنا فقط أحب مراقبة الحياة .. إنه كمشاهدة فيلم .. فيلم أبطاله واقعيون ..
– امم يبدو لي نفس الشيء … على كال حال ماذا ستطلبين ؟
– بيتزا ..
ابتسم ثانية لكني لم أسأله هذه المرة عن السبب، فقد كنت أعلمه جيدا، لطالما عشق كلانا البيتزا .. و لطالما كنا نطلبها كلما خرجنا لنأكل سويا .. و ربما كان هذا الشيء الوحيد المشترك بيننا إلى جانب حبنا للصحافة ..و ارتأيت أن استغل الفرصة لأشبع فضولي قبل أن يوجه الحديث لموضوع آخر ..
– اذا كيف كانت فرنسا ؟
– كما تبدو على التلفاز .. لكن أكبر بقليل .
– أأعجبتك الدراسة هناك ؟
– طبعا .. كانت فرصة رائعة ..
– حقا ؟ سعيدة أنك لم تفوتها إذن .. رغم أني لا أرى فائدتها
– ما الذي تقصدينه ؟
– أقصد أنك هنا الآن تعمل في نفس الجريدة التي أعمل بها، و ستقبض نفس المرتب، رغم أني لم أتكبد عناء السفر و لم أخطو خطوة خارج الوطن ..
– أنا لم أسافر من أجل الحصول على مرتب أكبر ..
– و لم سافرت إذن ؟
– لنفترض أني سافرت بغرض السياحة .. كنت أريد رؤية فرنسا ..
قلت بتحدي ..
– و لنفترض أني لم أصدقك ..
فرد ببرود ..
– لستِ مجبرة على ذلك ..
– لن تستطيع إجباري حتى لو رغبت ..
– قرأت مقالك ..
– و كيف وجدته ؟
– أسلوبك جميل .. لطالما كان جميلا ..
– إنه مقال و ليس رواية، الأسلوب لا يهم بقدر المضمون ..
– أرى أن ست سنوات لم تكن كافية لتنضجي فيها ..
– أنا ناضجة .. لطالما كنت ناضجة ..
– لو كنت ناضجة لعلمت أن ما تطالبين به ليس حرية .. بل العبودية بعينها ..
– توقف عن انتقادي ..
– أنا لا أنتقدك .. أنا أناقش فكرك ..
– و أنا أعرف رأيك مسبقا، و يبدو أنه حتى فرنسا العظيمة لم تستطع تغيير أفكارك البالية ..
– لأني لا أنمق الكلمات لأستعرضها بل أؤمن بها حقا ..
– ما الذي تقصده ؟
– لا شيء .. لنكمل البيتزا .. يجب أن تأخذيني في جولة في الجريدة حتى أعرف سير الأمور ..
– حسنا .