و لحسن الحظ كنت متعبة بشدة فلم أدع لعقلي فرصة التفكير في كل ما حدث و لا لقلبي فرصة الحزن و البكاء بسبب ما وقع و نمت كالطفل الصغير في حضن أمه، و لم أستيقظ إلا على صوت جرس الباب .. قمت مفزوعة فأنا لم أتعود أن يزورني أحد في مثل هذا الوقت، أطللت من ثقب الباب فوجدت أمي و زوجها على الباب، وضعت حجابي بسرعة و فتحت لهما الباب .. عانقتني أمي بشدة رغم إني غبت لأقل من أسبوع و هي عادة لا تراني أكثر من مرة في الشهر، فلم أفهم سببا لشوقها العارم هذا ..
مد زوج أمي بده إلي فصافحته على مضض، كنت قد قررت ألا أصافح الرجال بعد اليوم لكني لم أستطع أن أحرجه .. ثم التفت إلى أمي التي كانت تنظر إلى الفوضى العارمة في البيت بغضب و قلت لها ..
– آسفة يا أمي … لم أكن أعلم أنك قادمة .. لقد عدت للتو من السفر و لم يتسنى لي الوقت لأنظف الشقة بعد ..
– ريم ..الشقة دائما هكذا .. سواء كنت مسافرة أولا .. لو تسمعين كلامي و ..
– توقفي أمي من فضلك .. تحدثنا في هذا مرارا ..
– أمك محقة يا ريم .. تعالي للسكن معنا ..
– عمي فؤاد .. أرجوك .. أنا مرتاحة هكذا ..
– على الأقل اذهبي للسكن مع جدتك .. إنها وحدها بالبيت ..
– أمي .. تعلمين أن .. أنه لا يمكنني البقاء مع جدتي .. أنا أزورها كثيرا .. لا تقلقي عليها .. و دعونا من هذا الموضوع الآن .. أخبراني كيف حالكم ؟ اشتقت لكما ..
– و أنا اشتقت لك يا ابنتي .. كيف كانت العمرة ؟
– رائعة يا أمي .. فعلا إحساس جميل .. عليك أن تجربيه يا أمي .. مكة أجمل بكثير من باريس و روما و كل المدن التي زرتها ..
– إن شاء الله ..
ثم فجأة لمحتني أمي أدخل بعض الخصلات إلى الطرحة، فنظرت لي متعجبة تسألني بعيونها فابتسمت و قلت لها ..
– نعم يا أمي .. لقد لبست الحجاب و الحمد لله
– حقا ؟ لكنك مازلت صغيرة و ..
– أمي .. من فضلك ..
– حسنا .. مبارك لك يا بنيتي ..
– بارك الله فيك يا أمي .. العقبى لك يا حبيبة ..
– أنا .. من يعلم .. ربما .. لكن لم تضعينه في البيت ؟
– لا انا لا أضعه في البيت .. وضعته حين .. حين جئتما ..
– أوه يا ريم .. فؤاد في مقام والدك يا فتاة ..
– أعلم و لكن .. أمي … دعينا من هذا .. أذهبت لـ .. للعزاء .. عزاء الخالة فاطمة ؟
– ليس بعد .. كنت أريد أن نذهب معا ..
– لا .. لا .. أنا متعبة .. كنت هناك البارحة .. اذهبي أنت
– حسنا .. سأتركك لترتاحي ..
– ابقي قليلا .. سأحضر الشاي ..
– لا داعي يا ابنتي .. أنا مستعجلة ..سنسافر غدا إلى بيروت .. فؤاد لديه عمل هناك ..
– حسنا ..
– وداعا يا ابنتي ..
– وداعا يا ريم ..
– وداعا .. في أمان الله ..
أغلقت الباب و نزعت الطرحة بسرعة، يبدو أني لم أتعود عليها بعد ..توضئت و صليت فقد هدني التعب فلم أسمع صوت أذان الفجر و فوتت علي الصلاة التي انتظمت عليها و أنا في العمرة .. ثم لمحت هاتفي مرميا بالأرض فتفقدته .. يبدو أني رميته البارحة دون أن أشعر .. وجدت عدة مكالمات من ليلى .. جدتي .. و من الجمعية، اتصلت بجدتي أولا كي أطمئنها فأنا أعلم كم تقلق علي .. ثم أعددت كوبا من القهوة لأن رأسي يؤلمني بشدة و أحتاج للكافيين .. للكثير منه، اتصلت بالجمعية و أبلغتهم أن قراري نهائي و لا داعي للنقاش فيه و أني سأمر عليهم كي أنهي بعض الأعمال العالقة .. و تجنبت الاتصال بليلى .. لم أكن أريد أي شيء يذكرني بتلك الليلة المشؤومة .. كنت أريد أن أنسى .. أو على الأقل أن أتناسى ..
خرجت كي أتسوق.. فكل ملابسي قصيرة و ضيقة و لا تصلح للحجاب، و أنا أصبحت فجأة أشعر أني عارية لو لم تكن ملابسي تسترني كاملة .. ثم مررت بالبحر .. صديقي الأبدي .. صديقي الوحيد .. جلست على صخرة كبيرة و تركت قدماي لأمواج البحر تلاعبها ..
يذكرني البحر به .. يشبهه كثيرا .. في هدوءه الذي يغريك، و غضبه الذي يدمرك .. في سماعه لي دون ملل و كلل، في صوته الذي يبعثر كل آلامي .. آه يا إياد .. ماذا صنعت بي .. ماذا صنعت بي ..
أيقظتني من خواطري كرة رماني بها طفل صغير ..ثم جاءني على خجل يعتذر ، طبعت قبلة على خده و أعدتها له و راقبته يجري نحو والديه .. آه كم حلمت بمثل هذه اللحظة ..كم حلمت بالبيت السعيد و الحضن الدافئ و الطفل الصالح .. الحمد لله .. اللهم لك الحمد على كل شيء ..
قمت مسرعة قبل أن تقفل المكتبة و اشتريت بعض الكتب، فقد اكتشفت أني كنت جاهلة .. رغم شهادتي الجامعية و مقالاتي الكثيرة و الكتب التي تملأ شقتي .. إلا أني لا أعرف عن ديني و لا عن مجتمعي و لا حتى عن نفسي شيئا .. كنت حائرة أي كتاب أقتني ففضلت أن أشتري كتبا للقراء الذين سبقت و قرأت لهم .. و حملت كتبي الحبيبة إلى الشقة و أمضيت معها ذلك اليوم، و اليوم التالي و اليوم الذي يليه .. حتى رن هاتفي فجأة و قطع علي خلوتي ..
– السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ..
– و عليكم السلام ..
– أنا إياد ..
– أعلم .. كيف حالك ؟
– بخير و الحمد لله ..و أنت ؟
– بخير ..
– هل .. يمكن أن نكمل الحديث مباشرة ؟ أنا بباب المبنى ..
– باب المبنى ؟
– نعم .. أنا أنتظرك، هل من الممكن أن تنزلي ؟
– طبعا .. سأنزل بعد دقيقتين ..
لففت الحجاب حول رأسي بسرعة و أنا حائرة .. حائرة في سبب زيارته لي .. و حائرة في نفسي، كيف وافقت بهذه السهولة على مقابلته .. كيف لم أتعلم بعد أن أنطق في وجهه لا .. كيف يمرغ بكرامتي التراب ثم أتظاهر كأن شيئا لم يمكن بمجرد أن أراه أو أسمع صوته ..
نزلت الدرج بسرعة كأني أخشى أن يرحل إن تأخرت .. و توقفت خلف الباب ألتقط أنفاسي كي لا يلاحظ .. ثم خرجت له ..
– كيف حالك يا ريم ؟
– بخير ..
– كيف حالك أنت ؟
– الحمد لله .. أردت أن .. أن … أن أعتذر ..
– أن تعتذر ؟
– نعم .. عما قلته .. و عما .. عما فعلته سارة ..
– سارة ؟
طأطأ رأسه قم قال بخجل ..
– لقد أخبرتني يسرى كل شيء .. لقد استيقظت على صوت صراخكم .. و .. سمعت .. كل شيء ..
فرددت بغضب ..
– حقا ؟ أتكذبني و تصدق فتاة لم تتجاوز عشر سنوات بعد ..
– أنا لم أكذبك يا ريم ..
– لا .. لم تكذبني .. صرخت في وجهي و طردتني من بيتك فقط ..
– و الله رغما عني .. رغما عني يا ريم .. لم أكن أفكر .. كان قلبي موجوعا على أمي يا ريم .. و مازال قلبي موجوعا .. اعذريني .. سامحيني أرجوك ..
– لا بأس يا إياد ..
– أحقا سامحتني ؟
– سامحتك قبل أن تعتذر ..
– شكرا لك يا ريم .. كنت سأحضرها معي لتعتذر لك لولا ظروف البيت .. تعلمين .. العزاء .. و الضيوف ..
– لا داعي لذلك .. هل من شيء آخر؟
– لا .. هذا كل .. آه .. آه ..
و فجأة سقط إياد على الأرض أمامي يتلوى من الألم .. فانتابني الرعب و لم أعرف ما ألم به و بدأت أصرخ في الشارع طلبا للنجدة، و هو لا يكاد يسمع أو يرى شيئا من شدة الألم الذي ألم به .. و تقدم نحوي شابان يسكنان معي في نفس المبنى و حملاه في سيارتهما إلى المستشفى و أنا أحاول أن أسأله عما به و هو لا يستطيع أن يتفوه بكلمة …