بعث رئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة، يوم الثلاثاء رسالة إلى الأمة بمناسبة إحياء ذكرى استرجاع الاستقلال والعيد الوطني للشباب المصادف ل5 يوليو من كل سنة. هذا نصها الكامل:
“بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين
حضرات السيدات الفضليات،
حضرات السادة الأفاضل،
إن الغبطة لتغمرني و أنا أتوجه إليكم في احتفالنا هذا الخامس و الخمسين بالعيد الوطني للاستقلال والشبيبة.
فالعيد هذا موعد نترحم فيه خاشعين على أرواح شهداء ثورة أول نوفمبر 1954 الأبرار, ثورتنا التحريرية المجيدة التي استرجعنا بها سيادتنا الوطنية. كما هو مناسبة لتجديد الاعتراف و العرفان لمجاهدينا ومجاهداتنا الأماجد نظير كفاحهم و تضحياتهم التي تكللت بتحرير وطننا المفدى. و هو أيضا موعد لإيلاف قلوب كل أبناء الوطن على استذكار ماضينا الحافل بالمآثر.
حضرات السيدات الفضليات،
حضرات السادة الأفاضل،
إن الجزائر إذ قرنت، قبل خمس و خمسين سنة خلت، الاحتفال بالعيد الوطني للاستقلال بعيد الشبيبة إنما أكدت أول ما أكدت ضرورة استكمال تحرير البلاد وتعزيزه بإعادة إعمار الوطن و هي المهمة التي أنيطت بالشبيبة من حيث هي معقد الآمال و الرجاء.
و الخيار هذا ينم عن روح أمة عريقة عرفت في كل مرة, عبر الحقب والعصور, كيف تتجاوز الأزمات والملمات و تقلب أطوار التاريخ مواصلة بذلك صنع مصيرها و ما يحمل من كرامة و مجد.
حقا، لقد أبلى الشعب الجزائري، على مدار القرون، بلاء ما فوقه من بلاء في مقاومة لا هوادة فيها لسائر الغزاة الذين ابتلي بهم تباعا و كان آخرهم المحتل الفرنسي الذي تأتى طرده بعد 132 سنة من المعاناة والآلام بفضل تلك المقاومات التي توجتها الثورة التحريرية المباركة التي نالت إكبار العالم أجمع.
من خلال استذكار الماضي و ما تكبدناه فيه من مآس تحت وطأة الاحتلال الفرنسي إنما نمارس حقنا في حفظ الذاكرة وفاء لأسلافنا الذين قاوموا فاستشهد منهم الملايين و سجن منهم مئات الآلاف أو أخرجوا من ديارهم بينما جرد ملايين آخرين من أراضيهم وممتلكاتهم. إننا نمارس حقنا في حفظ الذاكرة وفاء لشعبنا الذي ضحى بمليون و نصف مليون من أبنائه وبناته لكي يسترجع سيادته الوطنية و استقلاله.
ليس في هذا التذكير بالماضي أية دعوة إلى البغضاء و الكراهية حتى وإن ظل شعبنا مصرا على مطالبة مستعمر الأمس بالاعتراف بما اقترفه في حقه من شر و نكال، فرنسا التي باشرت معها الجزائر المستقلة بناء شراكة استثنائية يجب أن تكون نافعة لكلا الطرفين شراكة لن يزيدها الاعتراف بحقائق التاريخ إلا صفاء و توثبا.
حفظ الذاكرة الوطنية هذا يعني أجيالنا الصاعدة هي الأخرى لأنه سيتيح لها على الدوام شحذ حسها الوطني و هي تواجه التحديات والصعاب و يكون مبعثا لاعتزازها الدائم بوطنها.
ذلكم هو المنظور الذي جعلنا نكرس بنص الدستور قدسية النشيد الوطني و العلم الوطني. و ذلكم هو المنظور بالذات الذي جعلنا نلزم الدولة بنص الدستور بضمان احترام رموز الثورة و صون ذاكرة الشهداء وكرامة المجاهدين. و وفق التصور هذا ذاته حمل الدستور الدولة مسؤولية السهر على ترقية التاريخ و تلقينه للأجيال الناشئة.
حضرات السيدات الفضليات،
حضرات السادة الأفاضل،
تعد الاحتفالات الوطنية كذلك محطات مواتية نقيس فيها ما قطعته البلاد من مسافة و ما العيد الوطني للاستقلال و الشبيبة إلا فرصة سانحة لذلك.
إن إخواننا و أخواتنا في هذا الوطن سيكونون من الشاهدين على مدى اختلاف جزائر اليوم عنها حين استرجعت استقلالها, قبل55 سنة مضت، ولم تجد وقتذاك سوى آلاف القرى المدمرة و ملايين اللاجئين والمهجرين و مئات الآلاف من يتامى و أرامل الحرب فضلا عن الخراب الذي اقترفته الهمجية الإرهابية على يد منظمة الجيش السري.
سيشهدون أيضا على الجهود الجبارة التي تعين على دولتنا الناشئة بذلها لكي تؤمن التعليم لأطفالها وتعيد إنعاش اقتصاد محدود و تخفف من وطأة الفقر المدقع الذي كانت ترزح فيه ملايين الأسر الجزائرية.
و سيتذكر مواطنونا، أيضا, تلك المسيرة التنموية الجميلة التي تم خوضها قبل أربعة عقود و تميزت على الخصوص بحركة تصنيع واعدة و تجدد فلاحي وتوسع التعليم في جميع المستويات و في كافة أرجاء البلاد. تلك المرحلة, التي حدتها, بل غذتها مشاعر الاعتزاز بالوطن و على الخصوص اعتزاز الشبيبة المتجندة، تزامنت و استرجاع السيادة الوطنية على الثروات الطبيعية للبلاد والأراضي الفلاحية والمناجم والمحروقات.
كان من الممكن أن يجعل هذا المسار الواعد حقا من الجزائر وقتذاك بلدا صاعدا لولا ما تعرض له بفعل الانحسار التدريجي لسيادتنا الاقتصادية ثم بفعل المأساة الوطنية التي خلفت عشرات الآلاف من الضحايا و ما جلبته من تهديدات خطيرة على بقاء الوطن.
لكن, بعون الله العلي القدير، تسلح شعبنا العظيم بتعاليم دينه الحنيف وبمآثر تاريخه المجيد و استطاع أن يتجاوز تلك المحنة الأليمة الرهيبة و عاود بناء وطنه من جديد.
قبل ثمانية عشر عاما، كان لي الشرف، و يا له من شرف، أن صرت دليل خطواتكم مستمدا قوتي من ثقتكم, فأعدنا بناء ما دمر و شيدنا المزيد و جعلنا بلادنا تتقدم في شتى المجالات. و كلها بني وطني الأعزاء إنجازات حققناها معا, و أذكر بعضا منها باختصار مصداقا لما أقول.
لقد سجل اقتصادنا، خلال الثماني عشرة سنة الماضية، تقدما ملموسا انعكس من خلال ارتفاع الناتج الداخلي الخام بقدر خمس مرات.
لقد سمح الإنعاش الاقتصادي هذا الذي تدعم بالإسهام الاجتماعي للدولة بإنشاء الملايين من مناصب العمل المختلفة فتراجعت نسبة البطالة التي بلغت %30 في بداية القرن هذا إلى ثلثها.
خلال تلك الفترة ذاتها استفادت الساكنة من أكثر من 3 ملايين و 500 ألف وحدة سكنية و هو ما لبى الطلب و زيادة مع العلم أنه يجري حاليا إنجاز ما يقارب مليون وحدة سكنية أخرى.
و أما الجامعة فإنها سجلت طفرة حقيقية إذ وسعت شبكة منشآتها القاعدية بحيث شملت كافة الولايات فارتفع عدد الطلبة ليصل عما قريب إلى مليوني طالب.
و الحركية هذه تواكب حركية قطاع التربية الذي تجاوز تعداده ثمانية ملايين تلميذ بينما قاربت نسبة تمدرس الأطفال في سن السادسة 100 % .
في المجال الاجتماعي سجلت الفترة ذاتها ارتفاع الأجر الوطني الأدنى المضمون بثلاث مرات و ذلك بالتوازي مع تحسن مداخيل كافة الفئات المهنية بينما أتاحت سياسة العدالة الاجتماعية و التضامن الوطني الفعالة إنزال درجة الفقر في البلاد.
كل هذه الدينامية التي تمخضت عنها تلك النتائج الملموسة و السريعة باتت تعترضها منذ ثلاث سنوات، انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية و تداعياتها على السوق العالمية للمحروقات.
من جراء ذلك تراجعت المداخيل الخارجية للدولة إلى ثلث ما كانت عليه بين عام 2008 و اليوم الأمر الذي أحدث ضغطا كبيرا على النفقات العمومية التي تظل المحرك الرئيس للاقتصاد الوطني و تحديث المنشآت القاعدية للبلاد.
في هذه الأثناء، تشهد منطقتنا ظروفا مشحونة بالتوتر و تواجدا مخيفا لبؤر الإرهاب و شبكات المتاجرة بالمخدرات، و هو ما يستدعي منا على الدوام توخي اليقظة حفاظا على سلامة ترابنا و أمن شعبنا.
تلكم هي التحديات التي تواجه بلادنا بحيث كان لا بد من ذكرها في هذه المناسبة الاجتماعية.
حضرات السيدات الفضليات،
حضرات السادة الأفاضل،
على الصعيد السياسي، تميزت السنة الجارية، بانتخاب، قبل فترة من الزمن، مجلس شعبي وطني جديد سيتولى مع الحكومة الجديدة مواصلة تجسيد التحويرات الهامة الواردة في الدستور المعدل فيما يتعلق بالتعددية الديمقراطية و تعزيز دولة الحق والقانون و مواصلة ترقية حقوق الإنسان و الحريات في كافة المجالات.
في هذا السياق، ستشهد السنة الجارية تنصيب المجلس الأعلى للشباب الذي سيمكن ممثلي الأجيال الصاعدة من صياغة تصورهم لمختلف الورشات المفتوحة في البلاد. و الشأن سواء بالنسبة للمجلس الوطني الاقتصادي و الاجتماعي المجدد هذا الذي سيكون فضاء للحوار المتواصل بين الحكومة و شركائها الاقتصاديين و الاجتماعيين في ظرف يتعين على الحكومة أن تواجه فيه تحديات اقتصادية و مالية جساما.
حضرات السيدات الفضليات،
حضرات السادة الأفاضل،
فيما يخص الحفاظ على سلامة ترابنا و أمن مواطنينا و ممتلكاتهم دعوني أجزي، باسمكم جميعا، تحية الإكبار الواجبة للجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني على ما أبلاه و يبليه من بسالة واحترافية و روح التضحية التي بفضلها وفق بالتنسيق مع مختلف المصالح الأمنية في التغلب الكاسح على آخر بقايا الفلول الإرهابية المنتشرة عبر بلادنا المترامية الأطراف.
بهذه المناسبة أترحم على أرواح أبنائنا شهداء الواجب الوطني الذين استشهدوا خلال الأشهر الأخيرة، من بين أفراد الجيش الوطني الشعبي و أفراد مصالح الأمن، أثناء مكافحتهم النبيلة لآفة الإرهاب المقيتة.
هذا، و أحيي بكل تقدير ما نشهده من جهود ونجاعة من قبل قواتنا المسلحة و مصالحنا الأمنية الرابضة على طول حدودنا من أجل صون سلامة ترابنا من كل محاولة تسلل إجرامي من أي صنف كان، و هي يقظة ترافق جهود دبلوماسيتنا في تعجيل استعادة السلم والوحدة و المصالحة في البلدين الجارين الشقيقين مالي و ليبيا.
حضرات السيدات الفضليات،
حضرات السادة الأفاضل،
تواجه بلادنا في المجال الاقتصادي تراجعا كبيرا في مداخليها الخارجية و اختلالا في ميزان مدفوعاتها الخارجية مع أنها تحتفظ بسيادتها غير منقوصة في قرارها الاقتصادي والاجتماعي بفضل ما جمعته من احتياطات الصرف التي بدأت تتناقص.
أمام هذا الوضع الذي سيستوقف كل واحد منا، بمناسبة هذا اليوم الذي نتذكر فيه تلك التضحيات الجسام التي بذلت في سبيل استرجاع استقلالنا, أجدد ندائي إلى شعبنا الأبي و أدعوه إلى بذل المزيد من الجهود و الاضطلاع بالإصلاحات الاقتصادية الضرورية بكل سيادة.
الجزائر لا تنقصها الموارد و لا المكسبات من حيث الفلاحة و السياحة و القدرات الصناعية و موارد الطاقة التقليدية منها و المتجددة على حد سواء. وهي تتمتع بشبيبة متعلمة و بسوق وطنية هامة.
فينبغي تثمير هذه الموارد و هذه المكسبات أكثر فأكثر و ذلك بإعادة الاعتبار لقيمة العمل، و تحسين مناخ النشاط الاقتصادي، و التعجيل بتنفيذ مختلف الإصلاحات الضرورية.
إن الحكومة مجندة حول هذه المهام اللازمة لتسريع التنمية الاقتصادية الوطنية و تنويع صادراتنا.
لكن هذا الالتزام يعني كل واحد و واحدة منا علما أن الرهان يتعلق بمستقبلنا الوطني وبمصير أجيالنا الصاعدة.
حضرات السيدات الفضليات،
حضرات السادة الأفاضل،
قبل 55 عاما خلت شهدت الجزائر انتصار ثورة عظيمة مكنتنا من استرجاع سيادتنا الوطنية، ثورة ما يزال أثرها إلى غاية اليوم محل تقدير في شتى أنحاء المعمورة.
و قبل عهد قريب، استطعتم، بني وطني الأعزاء حفظ وطنكم من الانهيار التام جراء مأساة وطنية حقيقية و وفقتم في تجاوز تلك المحنة بفضل المصالحة الوطنية التي بات العالم يتخذها اليوم مرجعا في مواجهة انتشار الإرهاب و المآسي الكثيرة المنجرة عنه.
كل هذه دلائل على مدى قدرة الشعب الجزائري على مواجهة التحديات و تحقيق المعجزات كلما تلقى نداء الوطن.
ذلكم هو نداء الوطن الذي أبلغه، في هذا المقام، إلى كل واحد و واحدة منكم، و بوجه خاص إلى شبيبتنا، من أجل مواصلة جهود إعادة البناء التي باشرناها معا منذ عقدين من الزمن.
و أشفع لكم هذا النداء بتمنياتي لكل واحد و كل واحدة منكم بموفور السعادة و الصحة في جزائر تزداد ازدهارا على الدوام”.