إن ما نحتاج إليه في حياتنا اليوم هو استخدام العقل في كل ما ندرك أو نفعل وذلك لأن التاريخ العربي العقلاني بصفة عامة انحسر يوم انحسر المفكرين والفلاسفة عن مسرح الحياة والفعل اليومي بين الناس بينما امتد وطغى الفكر الاستهلاكي التافه في المقابل متصدياً لكل ومضة عقلانية أو فلسفية متجسداً في فكرة (حجة ما يطلبه المواطن). ويرى البعض أن لبّ المشكلة في مجتمعنا وحقيقة الأزمة التي نعيشها هي مشكلة عقل معطّل لأسباب متعددة وأن كلمة التخلف الاقتصادي والقهر السياسي والانحلال الأخلاقي كلها مظاهر وتجليات لهذه الأزمة أي لغياب العقل المستنير القادر على التساؤل والتحليل والتعليل منذ تهميش المفكرين وغياب هذا العقل هو الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه.
الأزمة الحقيقية التي تعاني منها بلادنا تتمثل في عدم وجود طلب على الفكر أو على أقل تقدير وجود طلب محدود عليه فمن هذا الذي يبحث عن الفكر والمفكرين بعد أن تم تنشيط النزعات الاستهلاكية لدى الناس وأصبحت المتع الصغيرة أهم بكثير من إرهاق العقل في أفكار ونظيرات وجدليات بل لقد أصبحت الأفكار الكبرى في تاريخنا تقدم بصورة مسطحة تعكس تلك النزعة الاستهلاكية وانظر على سبيل المثال إلى الكيفية التي تتعامل بها وسائل الإعلام مع قضايا كالحرية والديمقراطية والعدل والمساواة وغيرها من أفكار اصطلح البشر على ضرورة توافرها داخل أي مجتمع. الطلب اليوم ليس على الفكر وكذلك ليس على المفكرين فالجمهور الذي اعتاد على الوجبات الغذائية السريعة والمهاتفة في الجوال أصبح يطلب أيضاً وجبات فكرية سريعة وقادرة على جذبه واستثارة انتباهه واهتمامه وإلا عبر سريعاً على الفكرة أو الأفكار المعروضة عليه كما يعبر على إحدى المحلات التي تعرض أزياء لا تعجبه ولا تبهره في ظل ذلك يصبح من العسير وجود طلب على الفكر ويمكننا أن نفهم ذلك التفاقم في تلك الأزمة إذا أخذنا في الاعتبار أن العديد ممن يُطلق عليهم”مفكرون “لم يستطيعوا أن يطوروا أدواتهم بصورة تتناسب مع طبيعة العصر الذي نعيشه والتحولات التي وقعت فيه.
لذلك فليس بغريب أن يتراجع الفكر ويتم تهميش المفكرين في مجتمعاتنا في الوقت الذي يصعد فيه نجم أشخاص تافهين يفهمون في كل شيء ابتداءا من المقروط وصولا لعلم الفيزياء النووية كما ليس بغريب أيضاً أن نجد الشارع أصبح يقدم طرحاً أكثر واقعية بكثير مما يطرحه من يطلق عليهم”مفكرون” واللوم هنا يجب ألا نلقيه على أفراد هذا الشارع الذي استسلم لأصحاب الفكر المسطح والاستهلاكي بل يجب أن نلقيه على الدولة التي همشت المفكرين وسلطت الأضواء على التافهين.