مند خمس سنوات ونظام الجنرالات بقيادة الجنرال شنقريحة يرفع شعار “الجزائر الجديدة” الذي يفترض أنه يعني التخلص من ميراث فترتي العشرية السوداء التي قتل فيها ربع مليون جزائري والتي كان حاكم الجزائر الان أحد عرابي ومجرمي الحرب فيها …. لهذا في نظر كثيرين من المراقبين السياسيين الجزائريين ليس تجسيد شعار “الجزائر الجديدة” بالأمر الهيّن بل يتطلب إحداث قطيعة راديكالية شجاعة مع كل أشكال التسيير والحكم التي فرّخت التخلف في البلاد ويستدعي ابتكار تصور نظري مؤسس على العلم وتنفيذ تطبيقات ميدانية جادة وحاسمة ثم الاعتراف بحقيقة أنه من المستحيل تجسيد مثل هذا الشعار المرفوع في ظل إعادة الحكم لنفس الأشخاص الدين ساهموا في قتل الجزائريين وكرّسوا فيها التخلف البنيوي على مدى سنوات طويلة مما جعلنا نعيش في القرون الوسطى رغم خيرات الغاز والبترول.
للإجابة عن هذه الأسئلة اغتنمت فرصة وجودي في الجزائر برمضان وقمت بزيارة للعاصمة وباتنة وعنابة وكان هدفي اختبار مدى تجسيد شعار “الجزائر الجديدة” في الواقع منذ البداية أكتفي بتسجيل بعض الملاحظات النموذجية فقط وهي كما يلي: لقد لاحظت عن كثب مظاهر التخلف وعيش القرون الوسطى حيث الطوابير في كل مكان والسرقة عادة عند الشعب الجزائري لهذا انت معرض للسرقة من أي شخص سواء كان عجوز او طفل كما أن حافلات النقل قديمة جدا وعدم وجود المطاعم الراقية والنظيفة وانعدام التعامل بالبطاقة البنكية وقلة الشبابيك البنكية وغياب تام لمستوى المعيشة والرفاه الاقتصادي وحريات التعبير والبيئة المعمارية التي تعتبر أحد أبرز عناوين التقدم الحضاري في أي مجتمع وغيرها من المظاهر في هذه الزيارة تعاملت شخصياً ومباشرة مع عدد من المصالح الإدارية وتبين لي أن المسؤولين فيها ما فتئوا يمارسون مختلف أشكال الإكراهات الرمزية والمادية على المواطنين إذ تلاحظ مثلاً الطوابير المكدسة أمام أبواب المكاتب حيث يجبر الناس على الوقوف ساعات طويلة في الهواء الطلق وفي عز الصيام والبرد القارس الذي يعصف بأجسادهم لقد رأيت مواطنين ومواطنات كثيرين يشكون ويتذمرون من أكداس الوثائق المطلوبة منهم لتكوين هذا الملف البسيط أو ذاك علماً أن الإدارة الحديثة تعتمد على الكومبيوتر الذي يخزّن مختلف المعلومات في كل الإدارات المترابطة ولا يحتاج الإنسان إلى استخراجها استخراجاً نمطياً مكرراً من المصالح الإدارية في البلديات أو من مكاتب المحافظات (الولايات)…. فرغم توافر هذه التكنولوجيات فإن الإدارة الجزائرية لا تزال تقليدية ولا تعمل بأساليب مرنة باستخدام البريد الإلكتروني والهاتف للتخفيف من عمليات انتقال المواطنين إلى المصالح الإدارية وبخاصة البعيدة منها لهذا السبب يحس المرء في الجزائر وكأن عصر التكنولوجيات لا وجود له رغم ملايير الدولارات من مداخيل الغاز والبترول ورغم وجود خدمات الإنترنت التي تنتمي مع الأسف إلى سرعة السلاحف جرّاء ضعفها المتفاقم وفي زيارتي هذه اصطدمت أيضاً بشتى أنماط العنف الرمزي المتولد من مظاهر المعمار الفوضوي المنفّر الذي يتنافى مع الأبجديات الأولية لجماليات العمارة العصرية التي يفترض أنها هي التي ينبغي أن تساهم فعلياً في إضافة أبعاد جمالية إلى دولة بترولية مثل الجزائر حيث من المعروف أن الجزائر لا تزال تتخبط في أزمة السكن ولم تجد حلولاً مرضية لها حتى الآن إذ إن تسعين في المئة من البنايات الجزائرية التي تنجز اليوم لا تستجيب إطلاقاً لمعايير المعمار الجمالي المتطور بل هي مجرد ركام من الإسمنت المسلح يرفع في الهواء في شكل أبنية متنافرة تعتمد شكل المستطيلات المستوردة من طرز البناء الصيني الذي تجاوزه الزمان أو تقلد على نحو مشوّه ورديء النماذج السكنية الفرنسية…. لهذا تكشف قراءة الواقع الجزائري أن الهزّات الكثيرة التي تعرضت لها الجزائر لم تتعلم منها السلطات المسؤولة الدروس حتى الآن إذ ليس لديها النية الصادقة لفتح ملف الأسباب الحقيقية التي جعلت البلاد غير قادرة على إنجاز التحول المتمدن في كل المجالات لهذا من الملاحظ أن العجز البنيوي الذي ما فتئ يعصف بالمجتمع الجزائري قد نتج منه أمر خطير جداً وهو عدم نجاح رهان التنمية الحضارية والاستقرار السياسي والاجتماعي وجراء ذلك يأسف المواطنون على ضياع 60 سنة من الحكم الذاتي الدي منحته فرنسا للجزائر …ومما يؤسف له أيضاً هو أن ظاهرة إعاقة مسار التنمية لم تجد تشخيصاً علمياً في إطار البحث العلمي ولم تعالج عملياً لاستئصال ورمها استئصالاً حاسماً لانه يبدو واضحاً أن السلطات لا تزال تعيد إنتاج الأساليب القديمة التي كرست الأزمات في المجتمع الجزائري وإغلاق باب تفعيل الحوار ولقد أفضى هذا إلى تراكم المشكلات منها مشكل هوية الجزائري ومن المؤسف حقاً أنه كلما ظهر أفق واعد لإنجاز مثل هذا الحوار نجد من يفرض عراقيل تؤدي غالباً إلى حرب أهلية ثانية مثل العشرية السوداء.