تعتبر 2019 سنة مكافحة الفساد بامتياز, بالنظر الى الاجراءات غير المسبوقة التي تم اتخاذها من أجل محاصرة هذه الظاهرة, لاسيما من خلال قيام جهاز العدالة بإيقاف ومحاكمة مسؤولين سامين سابقين في الدولة ورجال أعمال في سابقة تعد الاولى من نوعها في تاريخ الجزائر.
ومنذ بداية الحراك الشعبي في 22 فبراير المنصرم, أبانت الدولة عن عزم وحرص على الاستجابة لمطالب الشعب فيما يخص مكافحة الفساد ومحاسبة المتورطين في نهب المال العام والاضرار بالاقتصاد الوطني من وزراء وولاة سابقين ورجال أعمال.
وبما أن مكافحة الفساد كانت من أبرز مطالب الحراك الشعبي الذي شهده الشارع الجزائري, فقد أكد رئيس الجمهورية, عبد المجيد تبون, الذي تم انتخابه رئيسا للبلاد يوم 12 ديسمبر الماضي, في أول رد فعل له, أن “الفساد لا يقبل العفو الرئاسي”, مشددا على أن “حملة مكافحة الفساد والفاسدين ستتواصل”, مشيرا الى أن “قانون مكافحة الفساد يبقى ساري المفعول, لكننا سنواصل حملة مكافحة الفساد والفاسدين”.
وجدد الرئيس تبون التأكيد في خطابه بمناسبة تأديته اليمين الدستورية على ضرورة “استعادة هيبة الدولة من خلال الاستمرار في مكافحة الفساد وسياسة اللاعقاب وممارسات التوزيع العشوائي للريع البترولي”, مشددا على أن الدستور الجديد “سيقلص من صلاحيات رئيس الجمهورية ويحمي البلد من الحكم الفردي و يضمن الفصل بين السلطات ويخلق التوازن بينها وسيشدد مكافحة الفساد ويحمي حرية التظاهر”.
كما تجلت إرادة الدولة في محاربة هذه الظاهرة باتخاذها جملة من الاجراءات من بينها التغييرات التي طرأت على المستوى المؤسساتي كتعيين رئيس جديد للهيئة الوطنية للوقاية من الفساد في شخص السيد طارق كور ومدير عام جديد للديوان المركزي لقمع الفساد متمثلا في مختار لخضاري.
وتتولى الهيئة الوطنية للوقاية من الفساد التي تعتبر سلطة ادارية مستقلة على وجه الخصوص مهمة اقتراح سياسة شاملة للوقاية من الفساد تكرس مبادئ دولة الحق والقانون وتعكس النزاهة والشفافية والمسؤولية في تسيير الممتلكات والأموال العمومية والمساهمة في تطبيقها.
ويتعين على هذه الهيئة التي رصدت لها الدولة كافة الامكانيات البشرية والمادية اللازمة للقيام بمهامها, أن تطلب من الادارات والمؤسسات والتنظيمات العمومية والخاصة وأي شخص طبيعيا كان أو معنويا أن توافيها بوثائق ومعلومات تراها مفيدة في التحقيق عن الفساد.
من جانبه, فإن الديوان المركزي لقمع الفساد مكلف بالبحث والتحري في مجال مكافحة جرائم الفساد والجرائم المقترنة بها عند الاقتضاء مع تمكينه من التدخل ضمن اختصاص إقليمي موسع لكامل التراب الوطني.
وقد أنشئ الديوان لتعزيز أدوات مكافحة الفساد ومختلف أشكال المساس بالاقتصاد الوطني والمال العام, الى جانب اضطلاعه بالمهام المرتبطة بإجراء تحريات وتحقيقات حول الجرائم المتعلقة بالفساد وكل الجرائم المرتبطة بها عند الاقتضاء وتقديم مرتكبيها أمام الهيئات القضائية المختصة.
كما طال التغيير أيضا المسؤول الاول على وزارة العدل في خطوة تؤكد إرادة الدولة في منح هذا القطاع الصلاحيات والثقة التي تؤهله لأداء مهامه على أكمل وجه, لاسيما فيما يخص مكافحة الفساد.
وفي سابقة فريدة من نوعها في تاريخ الجزائر المستقلة, حركت العدالة آلياتها وشرعت منذ شهر مايو الماضي في تحقيقات معمقة بشأن العديد من الملفات وقضايا الفساد التي تورط فيها عديد المسؤولين السابقين, تم على إثرها إصدار جملة من الاحكام في حقهم.
وفي هذا الشأن, أصدرت محكمة سيدي محمد بالجزائر العاصمة, مع بداية شهر ديسمبر الجاري, حكما ب 15 و 12 سنة حبسا نافذا على التوالي في حق الوزيرين الأولين السابقين أحمد أويحيى وعبد المالك سلال بتهم تبديد أموال عمومية ومنح امتيازات غير مستحقة وسوء استغلال الوظيفة في قضية تركيب السيارات وتغريم سلال ب100 مليون سنتيم لذات التهم.
كما أصدرت ذات المحكمة حكما غيابيا ب20 سنة حبسا نافذا في حق وزير الصناعة الاسبق عبد السلام بوشوارب (الموجود في حالة فرار) والذي صدرت في حقه مذكرة توقيف دولية, في حين حكمت ب10 سنوات حبسا نافذا ضد وزير الصناعة الاسبق يوسف يوسفي وحكما ب 10 سنوات نافذة ايضا في حق وزير الصناعة الاسبق محجوب بدة و 5 سنوات حبسا ضد والي بومرداس السابقة نورية يمينة زرهوني.
وقضت محكمة سيدي امحمد أيضا ب 7 سنوات حبسا نافذا في حق رجلي الأعمال علي حداد وأحمد معزوز و 6 سنوات حبسا وغرامة ب600 مليون سنتيم ضد رجل الاعمال حسان العرباوي و 3 سنوات حبسا نافذا ضد رجل الاعمال محمد بايري و 5 سنوات حبسا لأمين تيرة و 3 سنوات حبسا لعبود عاشور وعامان (2) حبسا لكل من محمود شايد وحاج سعيد, في حين تم إدانة نجل الوزير الاول الاسبق, فارس سلال, ب3 سنوات حبسا نافذا.
من جهة أخرى, تم إصدار أوامر قضائية بوضع عدد من المسؤولين الحكوميين السابقين ورجال الأعمال تحت الرقابة القضائية من خلال سحب جواز سفر المتهم المطالب بالإمضاء مرة في الشهر أمام المستشار المحقق.
ومن بين هؤلاء يتواجد تحت الرقابة القضائية كل من وزير النقل والأشغال العمومية السابق عبد الغني زعلان, المتابع بجنح منح عمدا للغير امتيازات غير مبررة, اساءة الوظيفة, تعارض المصالح والرشوة, كما صدر أمر بوضع كل من وزير المالية الأسبق كريم جودي تحت الرقابة القضائية بعد اتهامه بجنحتي اساءة استغلال الوظيفة وتبديد أموال عمومية وكذا وزير النقل الأسبق عمار تو المتابع بجنحتي منح امتيازات غير مبررة للغير واساءة استغلال الوظيفة, كما يتواجد والي الجزائر العاصمة السابق عبد القادر زوخ تحت نظام الرقابة القضائية منذ منتصف يونيو الماضي,عن جنح منح امتيازات غير مبررة للغير واساءة استغلال الوظيفة, بالإضافة الى والي ولاية سكيكدة سابقا بن حسين فوزي الذي يتواجد في نفس الوضعية.
وفي اطار ذات التوجه, أمرت المحكمة العليا بإعادة فتح قضيتي “سوناطراك” و”الخليفة”, وذلك في إطار مواصلة التحقيقات في قضايا الفساد والمتابعات القضائية التي باشرتها العدالة, علما ان الأحكام النهائية بالنسبة للقضيتين تم معالجتهما على التوالي على مستوى محكمة الجنايات بالجزائر العاصمة ومحجنايات مجلس قضاء البليدة.
ولم يكن لمسار هذه المحاكمات أن يأخذ هذا المنحى لولا مرافقة قيادة الجيش الوطني الشعبي لجهاز العدالة, يتقدمها المرحوم الفريق أحمد قايد صالح الذي عمل طوال الاشهر الماضية على اجتثاث رؤوس العصابة واعتبر أن “نجاح مكافحة الفساد هو جزء لا يتجزأ من صدق المرافقة الشاملة للشعب الجزائري ولكافة مؤسسات الدولة الجزائرية”.
وكان الفقيد قد شدد في إحدى خطبه على أن العدالة “بعد استرجاعها لكافة صلاحياتها, منتظر منها الشروع في إجراءات المتابعات القضائية ضد العصابة التي تورطت في قضايا فساد ونهب المال العام, والتي تسبب أصحابها في تكبيد الخزينة العمومية خسائر فادحة”, داعيا الجهات القضائية المعنية الى “تسريع وتيرة معالجة مختلف القضايا المتعلقة باستفادة بعض الأشخاص, بغير وجه حق, من قروض بآلاف المليارات وإلحاق الضرر بخزينة الدولة واختلاس أموال الشعب”.