في عالمٍ غريب لا يخلو من الفانتازيا، يُنقذ طبيبٌ غريبُ الأطوار امرأة شابة من العصر الفيكتوري، من محاولة انتحار بأعجوبة، وذلك من خلال عملية جراحية، يقوم خلالها بنقل مخ جنينها إليها؛ لكي تعود إلى الحياة من جديد بجسد امرأة ناضجة وعقل طفلٍ رضيع.
هذه هي الخطوط العريضة لقصة الفيلم الأميركي “Poor Things” (كائنات مسكينة) المرشح لـ11 جائزة أوسكار هذا العام، لعل أبرزها هي جوائز: أفضل فيلم، وأفضل إخراج، وأفضل سيناريو مقتبس، وأفضل ممثلة رئيسية، وأفضل ممثل مساعد.
الفيلم المأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته من العام 1992، للكاتب الأسكتلندي ألسدير غراي، يجمع في بطولته عدداً من النجوم، مثل: إيما ستون Emma Stone، ومارك رافالو Mark Ruffalo، وويليم دافو Willem Dafoe، ورامي يوسف Ramy Youssef، وهو من إخراج المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس Yorgos Lanthimos، الذي قدّم من قبلُ عدداً من الأفلام الهامة مثل: “The Favourite”، و”The Lobster”، وقام بكتابته المخرج والمؤلف الأسترالي توني مكنمارا؛ مستنداً على الرواية الأصلية.
هل تابعتِ.. POOR THINGS أفضل فيلم كوميدي في غولدن غلوب 2024
قصة فيلم Poor Things
خلال أحداث فيلم “كائنات مسكينة” نتابع قصة امرأة شابة (إيما ستون)، يتم إنقاذها بعد إقدامها على الانتحار، على يد الطبيب العبقري غريب الأطوار “جودوين باكستر” (ويليم دافو)، الذي يُجري لها عملية جراحية باستخدام مخ جنينها الذي كان في أحشائها.
تعود الشابة إلى الحياة، بجسد امرأة وعقل طفلٍ رضيع، ويمنحها الطبيب “جودوين باكستر”، اسم “بيلا باكستر”.
يستعين “جودوين” بطالب طب يُدعى “ماكس ماكاندلز” (رامي يوسف)، والذي يصبح عاشقاً لـ”بيلا”. ومع ذلك؛ فهي مفتونة أكثر بمحتال واضح يُدعى “دنكان ويديربوم” (مارك روفالو). تهرب معه لترى العالم وتكتشفه، وتختبر لذة التمرد البشري الذي قد تكون عواقبه وخيمة.
الفيلم آنذاك عرضه العالمي الأول، وحصد كذلك أوليا جوائزه وهما جائزتا: الأسد الذهبي كأفضل فيلم، وجائزة أفضل مخرج في مهرجان فينيسيا.
عندما تبدأ قصة فيلم “كائنات مسكينة”، نرى ما يمكن اعتباره جثة امرأة شابة تغوص في النهر قبالة الجسر، إنها اللحظة التحريضية للفيلم بأكمله، لكننا لن نفهم سياقها إلا لاحقاً. نراها بعد ذلك على أنها “بيلا باكستر”، التي تكون حركاتها متصلبة، ومفرداتها مفردات طفل. يتم الاعتناء بها من قِبل الدكتور “جودوين باكستر” ذي المظهر البشع، والذي يشبه هو نفسه وحش “فرانكشتاين” الشهير، وسْط عالَم لا يخلو من الرمزيات حول الكون والجسد وتعقيدات النفس البشرية.
في أحد الأيام، أثناء أحد الفصول الدراسية التي يقوم بالتدريس فيها، يستعين بمساعدة الطالب “ماكس”، لرسم تقدم بيلا في أن تصبح شخصاً بالغاً متطوراً؛ فنجد أن “ماكس” مفتونٌ بها، ويريد أن يتزوجها. ولكن قبل أن يحدث ذلك، يقوم المحامي “دنكان ويديربوم” بإغواء بيلا للهرب معه؛ فتخرج إلى العالم، وتبدأ في اكتشاف ذاتها واكتشاف ماهية العالم الذي تعيش فيه؛ لتتكشف الحقيقة وراء هذا المشهد الافتتاحي حول انتحارها- أو بمعنى أدق- محاولة انتحارها، ونرى مَن الرجال الذين يهتمون حقاً بها، ومَن الذين يعتبرونها مجرد وسيلة يقومون باستغلالها فحسب.
أداء تمثيلي لافت
في فيلم “كائنات مسكينة” تقدّم نجمة فيلم “لا لا لاند” النجمة “إيما ستون” أداءً استثنائياً لافتاً، لأحد أكثر الأدوار جرأة في هوليوود في السنوات الأخيرة.
من خلال أداء “إيما ستون” لشخصية “بيلا باكستر”، نكتشف معاً رحلة النفس البشرية بكافة تعقيداتها وتطوراتها المذهلة؛ فها هي “بيلا” في بداية الفيلم تتعلم المشي، وتسير بطريقة خشبية شبه آلية، نراها كلوحة بيضاء تتنفس حية غيرَ مقيدة بالضغوط المجتمعية أو اللياقة أو المجاملات، ثم تبدأ في اكتشاف ذاتها وجسدها، واختبار لذة التمرد والخطأ؛ فتهرب من عالم “جودوين” الذي تحكمه القوانين والنظريات، إلي عالم أكثر تطرفاً وتمرداً وجموحاً، تختبر خلاله معاني الحب والحزن والرغبة والخيانة والنضج؛ لتقدّم “إيما ستون” واحدة من الأداءات الدرامية الفريدة التي لا يجرؤ سوى القليل من الآخرين على تجربتها، والتي تستحق أن نتوقف عندها طويلاً، وأن تنال الإشادة الكافية والتقدير المستحَق في موسم الجوائز، وهو ما حدث بالفعل بعد فوزها المستحَق بجائزة الغولدن غلوب كأفضل ممثلة في فيلم موسيقي أو كوميدي، وترشُّحها المستحَق لجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة في دور رئيسي.
الأداء التمثيلي المميز في “كائنات مسكينة” لم يقتصر على “إيما ستون” فحسب؛ حيث قدّم النجم “مارك رافالو” واحداً من أفضل أدواره التمثيلية عبْر مسيرته، من خلال الأداء المحكم لشخصية المحامي “دنكان ويديربوم”، الانتهازي المبتذَل الذي يستغل حاجة “بيلا” إلى استكشاف العالم أسوأ استغلال.
أداء “مارك رافالو” لشخصية “دنكان ويديربوم” منحه كذلك ترشحاً مستحَقاً لجائزة أوسكار أفضل ممثل مساعد هذا العام، وترشحاً آخرَ لجائزة الغولدن غلوب في الفئة ذاتها.
النجم “ويليم دافو” قدّم كذلك أداءً استثنائياً لشخصية الطبيب غريب الأطوار “جودوين باكستر”، الذي يحمل ملامحَ لا يخطئها العقل من شخصية العالِم فيكتور فرانكنشتاين الشهيرة، والذي يصنع مخلوقاً غريباً عاقلاً، في تجربة علمية غير تقليدية.
“جودوين باكستر” طبيب عبقري مسكين معذَّب مشوّه الوجه لا يخلو من الجنون، يعشق التجريب، ويقوم بصنع كائنات غريبة من خلال عمليات جراحية تتسم بالجنون؛ فنجد في قصره حيوانات عدة تحمل رأس حيوانات أخرى، لكن إنجازه الأكبر هي “بيلا باكستر” التي صنعها وحبسها في قصره ليختبر تطورها الجسدي والعقلي كحالة علمية، قبل أن تهرب “بيلا” من قصره، في رحلة اكتشاف وصنع عالمها الخاص.
إبداع بصري
يبدو فيلم “كائنات مسكينة” وكأنه أحد أفلام Universal Monsters الكلاسيكية؛ خاصة في بداية الفيلم؛ حيث تم تصوير الكثير منه بالأبيض والأسود، وتدور أحداثه في قلعة دكتور باكستر ومختبرات مختلفة؛ حيث تأثيرات الرعب والغرابة واضحة جداً. ولكن عندما ترى بيلا العالم؛ فإن تصميمات الموقع تصبح مذهلة للغاية وملوّنة، وهي مزيج من الجمالية الفيكتورية والقوطية وبعض العالم المستقبلي الغريب، مع سيارات الأجرة الغريبة التي تطير نوعاً ما. من الصعب وصف ذلك إلا إذا كنت قد شاهدت الفيلم. الأزياء والمكياج يستحقان الإشادة أيضاً؛ بدءاً من العباءات الفخمة والغريبة التي ترتديها “بيلا”، وحتى وجه الطبيب “جودوين” الذي يُعتبر بحد ذاته بمثابة لوحة من لوحات بيكاسو، التي لم تنجُ من محاولة تشويه واضحة؛ حيث يبدو الوجه وكأنه منحوت بعشرات الجثث.
هذا الفيلم قد يكون غريباً جداً بالنسبة للبعض؛ حيث إن أفلام لانثيموس هي في الواقع أفلام غريبة من نوعية أفلام المخرج ديفيد لينش. ومع ذلك، بالنسبة لأولئك الذين يريدون وليمة بصرية ونظرة جديدة لقصة كلاسيكية، لا يمكنني أن أوصي بأكثر من هذا الفيلم، الذي يحتوي على صورة سينمائية رائعة للغاية، وفكرة إبداعية واسعة النطاق، تحتوي على كثير مما يمكن أن نقوله عن استقلالية المرأة وقدرتها على التصرف، ورغبة المرء الفطرية في التمرد والاكتشاف، ويتوّج كلَّ هذا أداءٌ تمثيلي ممتاز، لم يترك مكاناً للدهشة فور علمنا بنيل هذه التحفة الإبداعية لـ11 ترشيحاً أوسكارياً جعله يفرض نفسه بقوة على لائحة أفضل الأفلام السينمائية في عام 2023.