أميرة القلوب، وأيقونة الأخلاق والاحترام، أجمع على حبها الملايين، نجحت الفنانة الراحلة رجاء الجداوي، التي تمتلك كاريزما خاصة جداً، كممثلة متميزة. فهي بالنسبة لجمهورها الأم والأخت والصديقة والجدة، نجحت أيضاً كعارضة أزياء لها طابع خاص. استطاعت أن تمثل مصر في محافل دولية عديدة، وكما كانت متميزة في فنها، كانت كذلك كزوجة للكابتن حسن مختار، والذي ظلت له الزوجة المخلصة الوفية في حياته وبعد رحيله، كما كانت أماً مثالية لوحيدتها أميرة حسن مختار، وحفيدتها روضة
فيلا رجاء الجداوي القاطنة في حي الشيخ زايد، بعد مرور ثلاث سنوات على رحيلها، والتي تعيش فيها وحيدتها أميرة التي تعمل مدرّسة للغة الألمانية في إحدى المدارس الكبرى في مصر، وزوجها وابنتها روضة.
أميرة مختار الابنة الوحيدة للفنانة الراحلة رجاء الجداوي
بدأنا حوارنا مع أميرة حسن مختار الابنة الوحيدة لرجاء الجداوي، وسألناها: فيلا رجاء الجداوي هل تفتقدها؟
المنزل يفتقد رجاء الجداوي نفسها، وأستحضر روحها بالذكريات، أجاهد ألم ووجع غياب أمي وعدم وجودها. لو كل ركن في المنزل تكلم سيقول لك إنه يفتقد رجاء الجداوي.
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط “سيدتي” تدخل فيلا رجاء الجداوي أميرة مختار
واجبات أمي بعد رحيلها
شرفة غرفة نوم رجاء الجداوي حيث كانت تجلس فيها في الصباح تستنشق الهواء قبل نزولها من غرفتها والجلوس في الحديقة
هل تقومين بواجبات والدتك الاجتماعية بعد رحيلها؟
أحرص على أن أقوم بواجبات أمي في تقديم واجبات العزاء وزيارة المرضى والتي كانت تقوم بها مع “الخالة” دلال عبد العزيز، يرحمها الله، و”الخالة” ميرفت أمين، أدام الله عليها الصحة، وأتذكر وأضحك دائماً عندما كان يتصل بها العم سمير غانم ويقول: “لها عزاء الجداوي رايحة تعزي فين النهارده”، فقد كان صديقاً مقرّباً لها جداً، وكانت سعيدة جداً عندما يجمعهما عمل تلفزيوني أو سينمائي. وقد استمتعت بالعمل معه في مسلسل “شربات لوز” ومسلسل “مذكرات زوجة مفروسة جداً”.
كنت صديقة لأمي وأبي
صور لعائلة رجاء الجداوي
كيف كانت رجاء الجداوي كأم؟
أمي كانت حازمة، لكن لا تضرب ولا يعلو صوتها، وكنت أشعر بذلك عندما تغير نبرة صوتها، كنت أخاف جداً وألتزم بكل تعليماتها. وفي الوقت نفسه كانت أماً حنونة تخاف عليّ جداً وتهتم بي كثيراً، والاهتمام والحب نفسهما كان لروضة ابنتي وحفيدتها الوحيدة. في فترة المراهقة لم أتعب أمي، وقد تقدم لي في هذه الفترة عرسان كثر، لكن أبي وأمي كانا حريصين على أن أكمل تعليمي أولاً ثم الزواج بعد ذلك. كنت صديقة لأمي وأبي، تعلمت من أمي الإتيكيت في التعامل وفي كل شيء في حياتي. فأنا الآن أدرّس اللغة الألمانية في إحدى المدارس في مصر، وأعلم الأولاد من خلال حصة أسبوعية كل ما تلقيته من أمي من سلوكيات أو تدريبات حياتية للتعامل بشكل راقٍ ومحترم مع كل شيء في الحياة. فن التعامل كيف نأكل ونشرب، وكيف نتعامل مع الناس، أعتبر ما أقدمه للأولاد في المدرسة من تعلم فن إتيكيت الحياة هو امتداد لما تعلمته من أمي وامتداد لرجاء الجداوي. بصمة أمي في شخصيتي أقدمها لأولادي في المدرسة.
بيت الدقي والذكريات الجميلة
غرفة “الريسيبشن” في فيلا رجاء الجداوي
منزلكم القديم المعروف بـ “منزل الدقي” هل مازال موجوداً وماذا عن ذكرياتك فيه؟
منزلنا في الدقي عشت فيه أجمل أيام حياتي مع أمي وأبي، هذا المنزل هو بيت العائلة بالنسبة لأمي قبل زواجها من أبي. فقد أقامت أمي في هذا المنزل قبل زواجها من أبي، وكان يقيم معها والدتها وإخوتها قبل زواجهم، وبعد ذلك تزوجت أبي، وأقامت في هذا المنزل سنوات عمرها حتى قاموا بشراء فيلا زايد والتي نقيم فيها حتى الآن أنا وزوجي وابنتي. وقد انتقلنا إلى هذه الفيلا بعد رحيل أبي بعد أن قام بتوضيبها، ولكنه رحل قبل أن يدخلها ويعيش فيها، فقررت أمي أن ننتقل إلى الفيلا بعد الرحيل، وأن تنقل معنا ملابس أبي وكل مقتنياته، لدرجة آخر “سيجار” كان أبي يدخنه، وعطره المفضل الذي كان يضعه، وكانت تحرص على أن تملأ غرفتها برائحة هذا العطر في الفيلا حتى تشعر بأن أبي ما زال موجوداً معنا. في منزل الدقي عشت طفولتي ومراهقتي وشبابي، والتحقت بالمدرسة الألمانية القاطنة أمام منزلنا، فقد كانت أمي تهتم أن تعلمني اللغة الألمانية، وكانت بعيدة النظر بأن هذه اللغة ستكون مهمة جداً في المستقبل. فالتحقت بأحسن المدارس الموجودة في مصر في ذلك الوقت، المدرسة الألمانية بالدقي، بعد أن اجتزت اختبارات صعبة أجريت لي لقبولي فيها. وبالفعل كانت رؤية أمي صحيحة، فأنا أعمل الآن مدرّسة للغة الألمانية، ووكيلة مدرسة في أكبر المدارس في مصر. أمي كانت تعيش من أجلي، وكانت حريصة على أن توفر لي كل شيء في الحياة حتى أكون الأفضل دائماً. وكانت أمي في منزلنا في الدقي الزوجة المثالية لأبي، فهي بمجرد أن تأتي من التصوير وتدخل البيت تكون حرم حسن مختار، وأم أميرة، وتنسى رجاء الفنانة. أتذكر عندما كان يأتي الأستاذ عزيز إبراهيم، الماكيير الكبير، والذي كان مرافقاً لأمي دائماً في كل أعمالها منذ الستينيات وحتى رحلت، فهي كانت مخلصة لكل من يتعامل معها، وكانت لا تترك أحداً تعامل معها منذ شبابها وحتى رحيلها. فعندما كان يأتي الأستاذ عزيز ليقوم بعمل المكياج لأمي استعداداً لذهابها للتصوير، وبمجرد عودة أبي للمنزل من تدريبات حراس المرمى في النادي، تستأذن أمي من الأستاذ عزيز وتقول له “أستأذنك بعض الدقائق لقد رجع حسن”، فقد كانت تقوم بفك شريط ضاغط بنفسها كان أبي يلبسه أثناء التدريب، بحكم أنه مدرّب حراس مرمى، لكي يحافظ على عضلات ساقه في التدريب. وتقوم بالإشراف على تحضير طعام الغذاء له وتقول للحاجة سامية مديرة المنزل والتي تعدّ واحدة من العائلة، فهي تقيم معنا منذ 50 عاماً، “حضّري الأكل للأستاذ حسن يا سامية”. وتقوم بنفسها بالاطمئنان عليه، فقد كانت لها لمسات جميلة مع أبي، وتشعره دائماً بالاهتمام به وأنه أهم شيء في حياتها.
والدتي وخالتها تحية كاريوكا
فترة الشباب عند رجاء الجداوي كانت فترة كفاح ومسؤولية. كيف كانت حياتها مع خالتها الفنانة الكبيرة تحية كاريوكا؟
أمي أقامت مع “الخالة” تحية كاريوكا منذ أن كان عمرها ثلاث سنوات ونصف السنة، بعد انفصال والدها عن والدتها. وأقامت مع “الخالة” تحية حوالي 16 عاماً، عاشت فيها أمي أحلى سنوات عمرها، فقد كانت “الخالة” تحية تهتم بها اهتماماً كبيراً، وكانت توفر لها كل سبل الراحة في الحياة. وقد التحقت أمي بمدرسة الفرنسيسكان. وكانت “الخالة” تحية تشتري لها أحلى الملابس وتوفر لها كل شيء يسعدها في الحياة. وعندما قررت أمي أن تترك الخالة تحية، لتعتمد على نفسها وتكون مسؤولة عن نفسها، كانت صدمة عمر الخالة تحية، وعارضت أن تعمل أمي بالفن لأنها دخلت الفن عن طريق المصادفة، ولم تكن تريد ذلك لأمي. وكانت تتمنى أن تكمل أمي تعليمها في السوربون. عملت أمي في بداية حياتها مترجمة، ثم عملت في كراج لسيارات النقل العام، حيث تقوم بصرف مرتّبات السائقين، بعدها دخلت مجال الفن ووقّعت عقد فيلم “غريبة”، ولم يصور، ثم وقّعت عقد فيلم “دعاء الكروان” مع هنري بركات، والذي تم اختياره لأمي لتجسد دور خديجة عن طريق المصادفة، كانت أمي تحضر هي ووالدتها وأختها وزوج أختها في حديقة الأندلس حفل اختيار “سمراء القاهرة”. وتم اختيار أمي من ضمن الحاضرين بأن تكون هي “سمراء القاهرة ملكة القطن المصري”، وفي الحفل نفسه كان المخرج هنري بركات موجوداً، وعرض على أمي أن تقوم بدور خديجة في فيلم “دعاء الكروان” أمام سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، وكان مصمم أزياء عالمي يدعى بيير جلوباس موجوداً أيضاً، فاختار أمي لتكون أول عارضة أزياء مصرية. ولعبت المصادفة أيضاً دوراً بأن يكرّمها الأديب طه حسين، عندما كان ترتيبها السادسة على القطر المصري في التعليم، وأن يكون أول عمل تقدمه في السينما فيلم “دعاء الكروان” من تأليفه، فقد كانت أمي تحب كتاباته وتحرص على قراءتها وتحترمه كثيراً وكانت تقول لي: “كل كتب طه حسين التي قرأتها شكّلت شخصيتي”.
اللقاء الأول بين أبي وأمي
صورة موجودة بجوار سرير غرفة نوم رجاء الجداوي تجمع بينها وبين زوجها الكابتن حسن مختار عند حضورهما حفلاً للمطرب الراحل محمد نوح
كيف كان اللقاء الأول بين الكابتن حسن مختار والفنانة رجاء الجداوي؟
المصادفة لعبت دوراً في اللقاء الأول بين أمي وأبي، كانت أمي تعرض في السودان إحدى المسرحيات مع “الخالة” تحية كاريوكا بدلاً من الفنانة نبيلة عبيد، التي لم تسمح ظروفها بالسفر. وكان أبي يلعب إحدى البطولات في السودان مع فريقه. فتقابلا أثناء تغييرهما للعملة. وأصبحا صديقين، وبدآ يتبادلان إهداء الكتب فيما بينهما، وكانت أمي تكبر أبي بسنوات، وعرض عليها الزواج في الطائرة، لكن أمي قالت له: “أنا عندي مسؤوليات كثيرة”. فقال لها: “نقسمها بيننا”. وأصرّ أبي على الزواج منها. فقد أعجب بشخصيتها وشعر بأنها محترمة وجادة. وتمّ الزواج.
كيف تصفين غرفة رجاء الجداوي في فيلا زايد؟
كانت أمي تقضي وقتها في غرفتها ما بين تحضير نفسها قبل الذهاب للتصوير وبعد عودتها من التصوير، إذا كانت مرهقة، تقضي دقائق معي أنا وروضة في المكان الذي نجلس فيه، سواء في “الاستقبال” أو في الحديقة. ثم تصعد إلى غرفتها حيث تتناول أحياناً طعام الغداء. وأحياناً نقضي الوقت معها أنا وروضة في غرفتها، نتبادل الأحاديث ونأخذ رأيها في أمور عديدة في حياتنا. كرسي الصلاة الموجود في غرفتها تجلس عليه وقت خلوتها وصلاتها وتكون في أسعد أوقاتها، فقد كانت أمي بعد صلاتها تتحدث مع الله، وكان دعاؤها عبارة عن حوار أو “ديالوج” داخلي، وكأنها تتحدث مع الله وتطلب منه بيقين إجابة دعائها. وبالفعل كان دعاء أمي مستجاباً، وأتذكر دائماً أنها قبل أي سفر كانت تكتب على ورقة آية: بسم الله الرحمن الرحيم “إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد”. صدق الله العظيم، وكانت تترك الورقة في مكانها. وقد كتبت هذه الآية على حائط غرفتها قبل ذهابها إلى مستشفى العزل عندما أصيبت بالكورونا، وكانت تشعر بأنها لن تعود مرة ثانية.
ماذا تضم خزانتها؟
خزانة أمي كانت محتوياتها شيك وبسيطة، ملابسها ثابتة، دائماً كانت ترتدي بلوزة كحلية أو بنية أو سوداء، وفوقها الجاكيت الأنيقة بألوان مختلفة. أمي كان تمتلك أناقة داخلية تنعكس على ملابسها، من أهم فساتينها الفستان الأخضر الذي ارتدته في حفل جوي أواردز، أول حفل تكريم تقوم به المملكة العربية السعودية للفن، وكان بالنسبة لها من أقوى التكريمات التي حدثت لها في حياتها، لأن الفن بالنسبة لها رسالة واحترام، وكان الفستان الذي ترتديه من لون علم المملكة العربية السعودية. واحتفظت أمي بالفستان الذي حضرت به حفل زفافي. فقد كانت تحبه كثيراً، حتى عندما يضيق عليها لا تفرط فيه أبداً. وتضيف أميرة: “تحب أمي أيضاً الفستان الذي حضرت به حفل تكريم ذوي القدرات الخاصة، وتكريم الرئيس لها في هذا الحفل، فقد كانت سعيدة جداً بكلمات الرئيس لها. كانت أمي بسيطة في اختيار فساتينها، تختار الألوان الهادئة، وتراعي في اختيارها لها دينها، وقيمها، وأن تكون قدوة لكل امرأة مصرية. فقد كانت تشبه كل امرأة مصرية”.
في الركن المقابل من “الاستقبال” هل كانت تستقبل منتجي ومخرجي أعمالها؟
كانت أمي لا توقّع عقد أي عمل من أعمالها الفنية هنا في الفيلا، فقد كانت توقّع عقود أعمالها خارج المنزل، كانت لا تخلط بين العمل والصداقات والمنزل، كان كل شيء عندها له حدود، وكل شيء له شكل، وهذا جزء من نجاحها. فكانت تستقبل الأصدقاء ومن تحبهم فقط في منزلها.
إتيكيت ترتيب السفرة
مائدة الطعام “السفرة” حيث كانت تقام “العزومات” وتتناول فيها رجاء الجداوي الطعام مع ابنتها أميرة وحفيدتها روضة وزوج ابنتها
كيف هو إتيكيت ترتيب السفرة عند رجاء الجداوي؟
علمتني أمي إتيكيت ترتيب السفرة، وكيف أجهزها، سواء لنا كعائلة أو للدعوات، وليس بهدف أن أساعد في البيت، لأن الحاجة سامية هي التي كانت تختص بذلك، وترتب كل شيء في المنزل فهي واحدة من العائلة. ولم تكن أمي تعلمني فقط فن الإتيكيت في توضيب السفرة، بل كانت تعلمني فن الإتيكيت في كل شيء، كيف أجلس، كيف أضحك، كيف أنظر باحترام لمن يكبرني، كيف أتحدث بأدب واحترام أيضاً. وأتذكر أنها كانت تعلمني كيف أسير بتوازن، وألا أتمايل في مشيتي، فقد كانت تضع فوق رأسي بعض الكتب وتجعلني ألبس حذاء بكعب عالٍ وأسير في المنزل بطريقة متزنة حتى لا أتمايل في مشيتي وتكون مشيتي ثابته ومحترمة.